​حمار الأستاذ

​حمار الأستاذ!!

المغرب اليوم -

​حمار الأستاذ

بقلم - أمير شفيق حسانين

كان للأستاذ مأمون أفندي، حمار قوي البنية، عالي المنكبين، ذو صحة جيدة، تؤهله لأن يمشي أو يجري مسافات طويلة دون كلل أو تعب، وكان الأستاذ مأمون معلم اللغة العربية بمدرسة القرية في أوائل الستينيات، يمتطي حماره البهي، ذا البردعة المستوية، زاهية الألوان.

وكانت أناقة المعلم، المتمثلة في ارتدائه البدلة القماش والطربوش الأحمر، وحرصه على نظافة حماره الأبيض، يجذبان الأنظار نحوهما بشكل دائم، ويصنعان حالة من الإعجاب والسرور في أعين الناظرين إليهما في الطرقات، وكان حضرة المعلم الفطن، حريصا على تحية من يعرف، ومن لا يعرف، من فوق حماره ملوحا بيده، ومُلقيا السلام بصوتٍ عالٍ أجش على كل من يقابله في شوارع القرية، أثناء ذهابه إلى عمله بالمدرسة في باكورة كل صباح.

وكان لمأمون أفندي مجموعة مُقربة من صبية المدرسة، من ضعاف التحصيل العلمي، وكان أغلبهم ينتمي إلى أُسر متدنية الحال، ورغم ذلك فقد اعتبر أن هؤلاء الصبية المساكين، هم خاصته، وقد صاروا بالفعل طوع بنانه في أي شيء يريد منه أن يعملوه له، ظنا منهم أن هذا من باب إرضاء كرامة وهيبة معلمهم.

ولهذا فقد عود الأستاذ مأمون هؤلاء الصبية الغافلين بأن ينتظره على باب المدرسة واحداً، صباح كل يوم، لكي يأخذ منه حماره الذي يمتطيه، ويذهب به إلى حقول الأستاذ مأمون، التي لا تبعُد كثيرا عن المدرسة، ثم يُسلم الحمار "للعم عويس"، هذا الأجير البسيط، الذي يتولى شؤون العمل والزراعة بحقول مأمون أفندي، وتكون مكافأة الصبي، هو سماح الأستاذ مأمون له بالهروب، بعيداً عن المدرسة، ليلهو ويلعب طوال اليوم الدراسي، دون تلقي دروس العلم أو التفكير في العودة للمدرسة!

بالفعل تعود بعض التلاميذ الكارهين والمستنفرين من المدرسة، على القيام بتلك المهمة الصباحية، ثم الهروب للعب هنا وهناك، أو الذهاب لتعلم حرفة يتكسب منها بعض الملاليم القليلة، ليساعد أسرته في تحمل المسؤولية، وهو في هذه السن المبكرة، أو ربما يرجع لينام في بيته أو أن يذهب ليساعد والده المزارع الفقير المسكين في أعمال الزراعة، بعدما يقنع والده صاحب الثقافة البسيطة، بأن هروبه من مدرسته أو الغياب منها، شئ مباح، خاصةً أنه بإذن من أستاذه الذي يعتبروه القدوة والمثل الأعلى في كل شئ، بينما لا يدري الأب المسكين أن ابنه يسلك سُبل الجهل والفشل، بسبب الانصياع وراء تهاون مأمون أفندي، الذي تساهل في أمور لا تؤدي إلا بالضرر لصاحبها عاجلاً ثم آجلاً!
بدأ بالفعل صبيان الحمار يتجهون نحو ترك طريق التعليم شيئا فشيئا بسبب التوجيه الخاطئ، من معلمهم غير النصوح، في الوقت الذي عانت فيه الأسر البسيطة، الفقر والعدم، وجاهدت أملاً في تعليم أبنائها ليصبحوا يوماً ما أصحاب شأن عظيم في المجتمع، بينما كان الإصرار ملازماً لهؤلاء الصبية المساكين، لسحب حمار أستاذهم الذي لم يجلب لهم إلا الخيبة!

كان الشق الآخر من مهام صبية الحمار، هو العودة إلى حقول مأمون أفندي ليتسلموا الحمار من "عويس" الأجير، بعد أن يطمئن الصبي بأن حمار الأستاذ، قد ملأ بطنه بالطعام من البرسيم الأخضر الطازج، فيعود الصبي إلى المدرسة في موعد الإنصراف، ممسكاً بلجام الحمار، واقفاً خارج المدرسة، يأبى دخولها، لا يبالي بنظرات اللوم والسخرية والحسرة من أعين زملائه الفطناء، مستديراً النظر، ليلمح معلمه، الذي ينادي عليه.. فيبادر الأستاذ مأمون بالقفز على ظهر الحمار، فيسحب الصبي الحمار وفوقه مأمون أفندي عائداً إلى بيت الأستاذ !

يرجع الصبي إلى بيته فرحا مسرورا، بعد أداء مهمته، معتقداً أن ما قام به من مهمة سحب لحمار أستاذه، هو شيء من قبيل الإخلاص أو الوفاء، وزيادة على ذلك اعتبرها التلميذ الكسول حجة يومية، وحيلة ذكية للهروب من المدرسة، بينما لا يدري الطالب المسكين أنه دخل مغارة مظلمة مكتوب على بابها "مأوى المتسربين من التعليم"، خاصةً مع تكرار انقطاعه عن المدرسة، وهجره للدروس وبعده عن تلقي العلم، والانصراف إلى اللعب في الشوارع ومرافقة الجهلاء والأغبياء وأصدقاء السوء.

مرت الأيام تمضي والسنوات تنقضي وصارت قضية سحب حمار الأستاذ مأمون، عادة لا تتجزأ من الروتين اليومي، للصبية الناقمين على التعلم، بالمدرسة التي يعمل بها معلم اللغة العربية، بسبب اإنصياع لتعليمات الأستاذ، غير السوية وإسناده إليهم لمهمة كارثية، حولت مصائر حياتهم نهائيا!

صارت عملية سحب هذا الحمار مجالاً للتنافس والسباق اليومي بين الطلاب الفاشلين العاشقين للحمار أكثر من التنافس على تلقي العلم الذي يلقنه لهم صاحب الحمار، حتى أنهم صاروا يتسابقون صباح كل يوم نحو حمار مأمون أفندي، لاستقباله، والأخذ بلجامه اللامع، لنيل رضا الأستاذ مأمون، ورضا حماره.

بدأت شعبية الحمار المسلي في الازدياد، بين الأجيال المدرسية المتتابعة بالقرية، بل وصار الحمار مصدر فرح وسرور لكل من يشاهده وهو يتبخطر في مِشيته، حاملاً على ظهره صاحبه الأستاذ مأمون أفندي، ولا يفكر الحمار أبدا في رفع إحدى قدميه لرفس من يمشي خلفه، أو يعض بأسنانه الحادة من يسحبه أو يداعبه، لكنه التزم الهدوء، واعتاد الألفة مع الجميع، ولهذا السبب صار للحمار كثير من الأصحاب والخلان والمؤنسين لطريقه ذهاباً وإياباً من المتسربين وفاقدي الرغبة في التعلم، بل باتوا ينامون ويحلمون بمرافقة الحمار الذي صار في منزلة الصديق والرفيق في الطريق.

كان شيئاً مخيباً للآمال، أن يبدي مأمون أفندي اهتماما بمصلحة حماره وهو من جنس الحيوان عن العناية والجدية بمستقبل الكثير من الأجيال التي جلست أمامه للتعلم، والذين هم من بني البشر، وتكريمهم واجب ديني وتفضيلهم أمر إلهي لا جدال فيه.

أما الصبية الفطناء محبي العلم، والذين نشئوا في بيوت، تعي قيمة حب المدرسة، فكانوا حريصين أشد الحرص على مستقبلهم ودراستهم والإنتظام في مدرستهم، بمساعدة ذويهم وأولياء أمورهم، ورفضوا تماماً أن يكونوا ضمن الفريق اليومي المعروف لسحب حمار الأستاذ مأمون، وابتعدوا عن طريق الحمار الملبد بالجهل والحماقة، وسلكوا طريق العلم والاستذكار والإجتهاد وتنظيم الوقت، ولذلك لم يكن لمثل هذا المعلم أن ينجح في استقطاب هذه الفئة الواعية، من الطلاب ويضمهم لفريق الحمار، ولذا نجى هؤلاء الطلاب المجتهدين من الوقوع في بئر التسرب من التعليم، وصاروا في أعلى الدرجات.

ومن بينهم ابن مأمون أفندي الذي صار طبيباً، لشدة حرصه على تعليمه سواء كان بالحزم أو اللين! أما صبيان الحمار، فتجدهم اليوم بعد مُضي العُمر والسنين، وقد صار فيهم العربجي والأرزقي والعتال والفران والسائق، ومن لا مهنة له، ومن هو غليظ القلب، وفظ اللسان، لأنهم حُرموا من حلاوة العلم، الذي يزين صاحبه بالإحترام ، ثم حُرموا كذلك منافسة وملازمة أولي العلم والفكر والرأي السديد، حتى كدت تستحسهم وقد تخطوا الستين عاماً، وهم يندمون على تفريطهم، وتساهلهم فيما مضي، وانشغالهم بما لم يُقدِم لهم النفع أو الفائدة، فما نفعهم أستاذهم الذي رحل عن الدنيا منذ عقود، ولا نفعهم حِماره، الذي نفَقَ، ولحق بصاحبه، وصار كلاهما تراباً تحت تراب!​

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

​حمار الأستاذ ​حمار الأستاذ



GMT 11:28 2023 الجمعة ,01 أيلول / سبتمبر

عام دراسي يتيم في اليمن

GMT 11:22 2023 الإثنين ,24 تموز / يوليو

أطفالنا بين القيم والوحش الرقمي

GMT 19:33 2021 السبت ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

في متاهات التعليم

GMT 07:56 2018 الجمعة ,02 آذار/ مارس

أبي حقًا

GMT 10:27 2017 الإثنين ,18 كانون الأول / ديسمبر

تقييم رؤساء الجامعــات؟!

GMT 09:27 2017 الأربعاء ,13 كانون الأول / ديسمبر

التلميذ.. ونجاح الأستاذ

GMT 09:26 2017 الأربعاء ,13 كانون الأول / ديسمبر

الرد على الإرهاب بالعلم والعمل

بلقيس بإطلالة جديدة جذّابة تجمع بين البساطة والفخامة

القاهرة ـ المغرب اليوم

GMT 02:30 2022 الأحد ,02 تشرين الأول / أكتوبر

نصائح لاختيار تصميم مثالي ومميز للأريكة في غرف المعيشة

GMT 22:25 2021 الأربعاء ,08 أيلول / سبتمبر

دليلك ليستقبل طفلك الدراسة بحب ومن دون مشاكل

GMT 11:24 2020 الجمعة ,10 تموز / يوليو

أريكة متعدّدة الإستخدامات

GMT 09:17 2020 الأحد ,12 كانون الثاني / يناير

النهج الديمقراطي يوضح موقفه من النموذج التنموي

GMT 05:36 2019 الجمعة ,15 آذار/ مارس

افتتاح مطعم " Clinton St. Baking" العالمي في دبي

GMT 18:48 2019 الإثنين ,07 كانون الثاني / يناير

ميسور يتعاقد مع المدرب المغربي عبد القادر يومير

GMT 01:42 2018 الإثنين ,26 تشرين الثاني / نوفمبر

عائشة البصري تكشف معاناة النساء من خلال "الحياة من دوني"

GMT 20:37 2018 الأحد ,30 أيلول / سبتمبر

إصابة شرطي إثر إطلاق نار كثيف في الدار البيضاء

GMT 03:55 2018 الإثنين ,29 كانون الثاني / يناير

Altinbas تقدم أرقى التشكيلات للساعات والمجوهرات وخواتم الزفاف

GMT 20:59 2017 الأربعاء ,13 كانون الأول / ديسمبر

الاتحاد المغربي للملاكمة يكشف عن موعد جمعيته العمومية

GMT 04:14 2017 الخميس ,07 كانون الأول / ديسمبر

جمبو يفوز بلقب بطولة فريق لبنان لإناث الجمباز

GMT 23:31 2014 الخميس ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

عرض الفيلم المغربي "فرونتيراس" في العاصمة الهولندية

GMT 15:10 2014 الإثنين ,27 تشرين الأول / أكتوبر

الإعلامية هند بومشمر تقدم اعتذارها للشعب المغربي

GMT 15:08 2016 الأحد ,25 كانون الأول / ديسمبر

نانسي عجرم تتألق بأربع فساتين بيضاء وتخطف الأنظار

GMT 06:17 2023 الثلاثاء ,24 كانون الثاني / يناير

7 ميزات مخفية في واتس آب تجعل تجربة استخدام التطبيق أفضل
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib