القاهرة - المغرب اليوم
وفي أيام الهروب من قبضة السجان والتخفي من العسس كان "للفاجومي" أن يجد دومًا ملاذه وسط البسطاء في شوارع وحارات وأزقة المحروسة، وأن يمنحوه كل ما بمقدورهم من دعم، لأنهم أدركوا بالفطرة النقية أن هذا الشاعر الجسور واحد منهم يدافع عنهم ويعبر عما يتمنون أن يعلنوه.
فهو عاشق مصر دون تكلف وهو "بطل شعبي" يحق للمصريين أن يصنعوا منه أسطورة، كلما استدعوا سيرته أو بحثوا عن مدد يعينهم في مواجهة الصعاب والشدائد، وهو الحنون على رجل الشارع وأبناء السبيل والذي فهم " الخريطة السرية لمصر والشفرة البالغة الخصوصية للمصري"، ومع كل شبر عرفه في هذا الوطن كان يزداد حبًا للوطن.
ولن يكون من قبيل المبالغة وضع أحمد فؤاد نجم في ذات الدرجة العالية الرفيعة، التي يحظى بها شاعر بقامة بابلو نيرودا، وستصدر الكثير من الكتب والأعمال حول "أسطورة الفاجومي" تمامًا كما هو الحال مع نيرودا الذي مات عام 1973، وتتوالى الكتب والكتابات عنه حتى راهن اللحظة وآخرها كتاب "بابلو نيرودا: عشق الحياة" الذي صدر بالإنجليزية للمؤلف آدم فينشتاين.
وسواء في مصر أو في تتتشيلي كان "الفاجومي" وبابلو نيرودا مهمومين بقضية التعبير عن الإرادة الوطنية في مواجهة قوى الهيمنة الأجنبية، فضلا عن أن كلاهما كان وسيبقى لسان حال الشعب في مواجهة السلطة التي تعبر عن مصالح عصبة فيبدو الوطن وكأنه تحول الى ملكية خاصة للحاكم وعصبته!.
ثمة مشكلة بنيوية بحق في دول العالم الثالث مثل مصر وتتتشيلي، وهي أن هذه الدول عانت دائمًا من ازدواجية الخطاب السياسي المعلن والواقع الحقيقي ولم تعرف في أغلب مراحلها المساواة الفعلية في الحقوق بين مواطنيها، أو الحريات والديمقراطية وتداول السلطة، فيما اختلطت مفاهيم السلطة بمفاهيم الدولة كما اختلط المعنى بصورة مثيرة للأسى.
تلك مشكلة تصدى لها أحمد فؤاد نجم في مصر، كما اشتبك معها بابلو نيرودا في تتشيلي ودفع كل منهما ثمن جسارة المواجهة بقدر ما نالا المكافأة من الشعب هنا وهناك، عندما صنع منهما أسطورة ستبقى في أعز مناطق الوجدان العام والذاكرة الجمعية.
في مصر كما في تتشيلي يصعب القول على مدى عقود بأن هناك تنظيمات شعبية فعالة أو أحزاب حقيقية بمقدورها الدفاع عن حرية الفرد والديمقراطية وحقوق الجماهير في مواجهة تغول السلطة وتأميمها للمجال العام.
وسيتوقف التاريخ الثقافي طويلا أمام الدور الذي نهض به شخص واحد مثل أحمد فؤاد نجم أو بابلو نيرودا، وهو دور أهم بكثير من تنظيمات وأحزاب حتى يصح القول بأن هذه النوع النادر من المبدعين هو بحق "الرجل المؤسسة" وأروع ما في الأمر أنها مؤسسة الضمير الشعبي التي صنعها الشعب على عينه ومنحها تأييده وحبه وصك المبايعة من أعماق الذات الوطنية.
إنها عبقرية المبدع والشعب معًا في اتفاق ضمني يتحدى في أسوأ مراحل الطغيان ثقافة الخضوع والعجز واللافعل، ويثبت أن "قيمة الرجولة" لم تدخل في ذمة التاريخ وتوارى الثري بقدر ما يقوم هذا النوع النادر من المثقفين المبدعين بقبول المواجهة، التي يرتفع فيها سقف المخاطرة والتضحية مع السلطة المستبدة بالنيابة عن الشعب الذي يبرهن على صحة توكيله لهذا المثقف المقاوم باحتضانه دومًا، ومنحه صفة البطل والمكانة العزيزة دائمًا في الذاكرة الجمعية.
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر