ثورة في صندوق

ثورة في صندوق

المغرب اليوم -

ثورة في صندوق

بقلم : توفيق بو عشرين

أقل من ثورة وأكثر من انتخابات.. هذا ما حصل يوم الأحد في فرنسا، حيث حمل الناخبون مرشحين إلى الدور النهائي للانتخابات الرئاسية، ليس بينهما فيون ممثل اليمين، ولا هامون ممثل اليسار. لأول مرة في تاريخ الجمهورية الخامسة يغيب الحزبان الكبيران عن الدور الثاني لانتخابات الإليزيه، حيث انهار الحزبان الكبيران في فرنسا أمام شاب عمره 39 سنة، رفع شعار ‘‘فرنسا إلى الأمام’’، وخرج يبشر ببرنامج الخيار الثالث، دون حزب، ودون إمكانات تنظيمية كبيرة، ودون تجربة سياسية. أما المرشحة الثانية للرئاسة، فهي ممثلة اليمين المتعصب، مارين لوبان، التي حصلت على 7,6 ملايين صوت، ووعدت الفرنسيين بالخروج من الاتحاد الأوروبي، وإرجاع الفرنك، وطرد المهاجرين، ومكافحة الإرهاب بكل وسيلة في يد الدولة الفرنسية.

صعود اليمين المتطرف تدريجيا في كل الاستحقاقات الفرنسية لا يعتبر ظاهرة في هذه الانتخابات، بل كان معروفا ومفهوما أن يصوت الفرنسي الغاضب لصالح صوت شعبوي يعده بحلول سهلة لمشاكل معقدة، ويقول له: ‘‘سنخلق مناصب شغل بطرد المهاجرين، وسنوقف ترحيل الوظائف إلى الخارج بنهج احترازي يواجه العولمة الاقتصادية، وسنحارب الإرهاب بطرد كل المشتبه بهم من فرنسيين من أصول عربية خارج الحدود’’… هذه هي لعبة لوبان واليمين القومي الشعبوي في أوروبا، وهي لعبة ارتفعت شعبيتها كثيرا أمام الأزمة الاقتصادية المستفحلة، وغياب الحلول العقلانية، وانتشار الإرهاب، والخوف من الأصولية… لكن اللافت في انتخابات فرنسا الأخيرة هو تصدر الشاب إمانويل ماكرون نتائج الاقتراع الرئاسي بـ23,75%، وهو الذي لم يكن معروفا سوى للأقلية من نخب اليسار وسط الحزب الاشتراكي. شاب قادم من القطاع البنكي، ووزير مالية لمدة قصيرة، ولم يسبق له أن انتخب في أي مؤسسة تمثيلية وطنية أو محلية، كيف صنع هذا الشاب، في ظرف سنة، «اسما» وبرنامجا وعلامة سياسية استقطبت أكثر من ثمانية ملايين صوت، وجعلت هولاند وفيون وجوبي وهامون، وغيرهم، يدعون الفرنسيين إلى انتخابه رئيسا للجمهورية.

أول تفسير سياسي وإيديولوجي يمكن أن يساعد على فهم هذه الظاهرة يتمثل في تموقع قائد حركة ‘‘إلى الأمام’’ في الوسط، واقتراحه حلا ثالثا لتجديد السياسة الفرنسية، لا هو يساري قديم ولا هو يميني متشدد… منذ اليوم الأول أخذ ماكرون مسافة من المعسكرين معا، اليمين واليسار، لكنه اتخذ موقفا معارضا وبشدة تجاه اليمين القومي المتطرف. وضع ماكرون برنامجا ليبراليا سياسيا بشكل صريح، واجتماعيا اقتصاديا، لكنه لا يعادي الرأسمال واقتصاد السوق وثقافة العمل.

ثانيا، كون ماكرون صفحة بيضاء، وخارج المؤسسة الحزبية التقليدية، ساعده على أن يكون صوت الاحتجاج والغضب الصاعد من المجتمع الفرنسي تجاه الطبقة السياسية الغارقة في الفساد وتضارب المصالح والامتيازات، واستغلال المناصب وفوقها الانقسامات التي تشق صفوفها… ضيق الناخبين من «النخبة الحاكمة في اليمين واليسار» هو الذي دفع شريحة واسعة منه إلى التصويت لشاب ليبرالي تبدو عليه علامات «الحلم بفرنسا جديدة»، ويقدم برنامجا عقلانيا يحل مشاكل فرنسا داخل الاتحاد الأوروبي، ويتصدى للإرهاب بوسائل دولة الحق والقانون، ويخلق مناصب للشغل داخل حقائق الاقتصاد الفرنسي وليس بواسطة الأحلام الشعبوية.

ثالثا، ما يفسر الصعود السريع لإمانويل ماكرون، الذي اصطف خلفه اليوم الحزبان الكبيران في اليمين والوسط وباقي الأطياف السياسية لمنع لوبان من دخول قصر الإليزيه، هو وسائل الإعلام الجديدة، وتأثيرها القوي وسط الشباب الذين شاركوا بقوة وفعالية في دعم قائد ‘‘إلى الأمام’’، كما فعل ترامب في أمريكا، حيث صعد على ظهر التويتر لمخاطبة الجمهور الواسع، إذ لم تفلح الميديا التقليدية في حجب صوته عن الجمهور. كذلك فعل ماكرون، وظف الفايسبوك والتويتر على نطاق واسع لخلق حالة ثقافية تدعم برنامجه السياسي، باعتباره صوت شاب حر مستقل من خارج «الأوليغارشية» القديمة، يبشر بأمل جديد، ويدعو الناس إلى نسيان الماضي والانخراط في المستقبل.

لقد كشفت نتائج اقتراع الأحد حجم التغيرات التي وقعت في بلاد دوغول، حيث ينقسم المجتمع الفرنسي اليوم بين مشروعين أساسيين وكبيرين؛ الأول يمثله ماكرون، ويدافع عن الانفتاح الثقافي والسياسي، والانخراط في العولمة، وعلاج أمراض الرأسمالية من داخلها، والتمسك بالحلم لأوروبي، وإعادة تجديد ثوب الجمهورية الخامسة بالتصالح مع التراث الليبرالي للثورة الفرنسية، وليس ببعث التاريخ الميت للقومية. أما المشروع الثاني فتمثله اليوم لوبان، ويدافع عن الانغلاق الثقافي والتعصب القومي والانعزالية الاقتصادية، وإعادة بعث الحدود الجغرافية في السياسات العمومية، ومجابهة العولمة بإدارة الظهر لها، مع تسويق الخوف من الإرهاب والمهاجرين والمسلمين والاتحاد الأوروبي والأورو وفضاء شينغن والسوق المفتوح، وحرية تنقل البشر والرساميل والثقافات… هذا المشروع يحاول أن يرجع بفرنسا 200 سنة إلى الوراء بزعم استعادة أمجاد القوة وملامح الدولة القومية.

تظل فرنسا بلادا لها خصوصية في أوروبا والعالم. في بريطانيا عبر الناخب عن غضبه في «البريكسيت»، وفي أمريكا عبر الناخب عن ضيقه بانتخاب ترامب، أما في فرنسا فعبر الناخب عن أمله في شاب عمره 39 سنة اسمه ماكرون، و7 ماي سيصادق على هذا الاختيار.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ثورة في صندوق ثورة في صندوق



GMT 06:02 2018 الأحد ,25 شباط / فبراير

حان وقت الطلاق

GMT 07:26 2018 الجمعة ,23 شباط / فبراير

سلطة المال ومال السلطة

GMT 06:39 2018 الخميس ,22 شباط / فبراير

لا يصلح العطار ما أفسده الزمن

GMT 05:46 2018 الأربعاء ,21 شباط / فبراير

الطنز الدبلوماسي

GMT 05:24 2018 الثلاثاء ,20 شباط / فبراير

القرصان ينتقد الربان..

GMT 02:25 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

نصائح لجعل المنزل أكثر راحة وهدوء
المغرب اليوم - نصائح لجعل المنزل أكثر راحة وهدوء

GMT 19:55 2024 الأربعاء ,03 إبريل / نيسان

مولود برج الحمل كثير العطاء وفائق الذكاء

GMT 18:51 2019 الأربعاء ,25 كانون الأول / ديسمبر

حمد الله ينافس ليفاندوفسكي على لقب هداف العام

GMT 14:43 2018 الجمعة ,28 كانون الأول / ديسمبر

قائمة بأسماء أفضل المطاعم في مدينة إسطنبول التركية

GMT 20:29 2018 السبت ,27 تشرين الأول / أكتوبر

منة فضالي " فلّاحة" في "كواليس تصوير مشاهدها بـ"الموقف"

GMT 06:46 2017 الإثنين ,25 كانون الأول / ديسمبر

ماكياج عيون ناعم يلفت الأنظار ليلة رأس السنة

GMT 03:29 2017 الأربعاء ,20 كانون الأول / ديسمبر

أصالة تبهر جمهورها خلال احتفالات العيد الوطني في البحرين

GMT 07:40 2014 الأحد ,28 كانون الأول / ديسمبر

اللاعب مروان زمامة مطلوب من ثلاث فرق مغربية

GMT 06:44 2016 الأربعاء ,15 حزيران / يونيو

اختيار هرار الأثيوبية رابع أقدس مدينة في الإسلام

GMT 04:44 2015 الثلاثاء ,08 كانون الأول / ديسمبر

شركة ألعاب "إيرفكيس" الشهيرة تطلق ألعاب خاصة للفتيات

GMT 09:18 2015 السبت ,26 كانون الأول / ديسمبر

هواوي Y6 تبيع 5 آلاف وحدة من الهاتف النقال
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib