رأي رياضي من ريو دي جانيرو

رأي رياضي من ريو دي جانيرو

المغرب اليوم -

رأي رياضي من ريو دي جانيرو

بقلم : يونس الخراشي

لست أفهم كثيرا في الموسيقى. بل إني لا أفهم. ومع ذلك، يمكنني أن أتذوقها. خاصة إذا كانت تنبع من القلب. إذ أن كل ما ينبع من القلب يصل إلى القلوب. أما عدا ذلك فإنه لا يصل، بل الحق أنه لا ينطلق أصلا حتى يصل. فكيف لمن لا يملك قلبا طيبا وشغفا أن يصدر عنه شيء يحبه الناس ويهفون إليه؟
في ريو، حيث الناس يعشقون الحياة بجنون، يصح فيهم بيت أبي نواس:"حمل الهوى تعب... يستخفه الطرب". ذلك أن نسمة موسيقى تحركهم، فترى الأجساد تهتز وتترنح، والأفواه تردد في الخاطر، أو جهرا، كلمات أغنية ما، إما مبثوثة على الأثير، أو في شاشة تلفزيون، أو تحملها الخيوط من الهاتف إلى الأذنين، أو هي من وحي الخاطر فقط.
قبل يومين، قادني البحث عن وجبة الإفطار إلى مطعم الفندق، بمنطقة بارا جنوب ريو دي جانيرو، حوالي الساعة الخامسة والنصف صباحا. وبينما كنت أعكف على كتابة موضوع جديد للجريدة، وصلتني "طقيطقات" يغنيها عامل في المطبخ، ظل يحدي طويلا، وكأني به راع مغربي على جبل في الأطلس.
كان غناؤه غير حزين، ولكنه لا يعبر عن سعادة. بل قل إنه كان شيئا يسري به عن نفسه، ولعله يتذكر به عزيزا بعيدا. وكأني به تمنى لو أمكنه ألا يغادره، فلما حل طيفه بخاطره غنى، كما لو ليسمعه البعيد، فيفهم أنه معنى بالشوق إليه، ويبقى الوصل قائما على بعد المسافات، وضيق ذات اليد.
الأغنيات التي قفزت إلى سمعي في الأيام الماضية، سواء بالصدفة أو لأنها كانت ترانيم تقدم صورا خاصة في التلفزيون، قالت لي إن هذا البلد يتغنى كل مرة بما يناسب اللحظة، فمرة ما هو سار وفوار، يمتح من ثقافة البرتغالي الغازي لريو منذ القرن السادس عشر الميلادي، ومرة ما هو هندي أصيل فيه بطء شديد، وترانيم تغنى على الترجيع، لمن سلب كل شيء، ومرة ما هو إفريقي حزين، فيه بحة لا يخطئها القلب لمن اجثت من ترابه.
ريو دي جانيرو، بل البرازيل كلها، نتيجة لتلاقح كبير وغني لحضارات عديدة، ومن الطبيعي أن يكون الموروث الغنائي مهم للغاية، ويعبر عن ذلك التلاقح، الذي يوجد فيه برتغالي جاء غازيا، وأسعده أن يعثر على أرض معطاء، فيها الأنهار والغابات والبراري الكبيرة والشواطئ الممتدة، فصار حاكما لا ترد له كلمة، وفيه هندي افتقد الطمأنينة بكل ما تعنيه الكملة، حين قتل وشرد به، وانتهكت حرماته، ففضل الاختباء في الغابات، حفاظا على نفسه، وفيه الإفريقي الذي حمل كرها إلى البرازيل، وهو مقيد اليدين، واستغل في الحرث والبناء وكل الأشغال الشاقة، ليصبح خادما بعد أن كان سيدا.
وهكذا أتصور أن ما قفز إلى مسعمي طيلة الأيام الماضية، ورأيته يحرك الأجساد بغير تحفظ، يعبر ولا شك إما عن كبرياء المتفوق البرتغالي، وشعوره بلذة الانتصار على الجميع، أو كبرياء الهندي الذي ضاعت منه طمأنينته، وحزن عليها، دون أن يركع، أو كبرياء الإفريقي الذي وإن جيء به مقيدا من غرب إفريقيا على الخصوص، فقد ظل شامخا، حتى إنه شكل بيت القصيد في بناء البرازيل، وكانت له صولات وجولات، مثلما ذبح في مناسبات.
إنها إذن قضية كبرياء. وهو كبرياء إما جارح أو مجروح، نمت على سكينه أو على دمائه ترانيم كثيرة، حتى صارت لاحقا أغنيات من الماضي، أو أغنيات تقوم على الماضي، وتستدعي الحزن أو الشجى أو الفرح، وقد تستدعي كل ذلك، دون أن يعي من يرددها بأنه إزاء شيء يؤرخ للكثير من المآسي والأفراح التي لم يكن له فيها يد، ووصلته بطريقة خاصة، مثلما يصله كل يوم ماء الأمازون من مكان لا يعرفه.
ربما أكون مخطئا في بعض التفاصيل، لأنني لست أفهم في الموسيقى. غير أن قلبي لم يكن ليخطئ بأن ما وصله شفاف للغاية، على الأقل ما لم يكن منه مجرد صراخ، يستدعي جذبة الجسد، دون أن يحرك شيئا في الخاطر، وأنى له ذلك وهو بلا عمق، وبلا أي جذور تمنحه إكسير الحياة ليصنع منه حياة جديدة. 

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

رأي رياضي من ريو دي جانيرو رأي رياضي من ريو دي جانيرو



نانسي عجرم تتألق بالأسود في احتفالية "Tiffany & Co"

القاهرة - المغرب اليوم

GMT 07:05 2024 الثلاثاء ,30 إبريل / نيسان

المغربية سميرة سعيد تُروج لأحدث أغانيها «كداب»
المغرب اليوم - المغربية سميرة سعيد تُروج لأحدث أغانيها «كداب»

GMT 11:02 2022 الأحد ,11 كانون الأول / ديسمبر

بيروت تتوالد من رمادها وتتزين بكُتابها.

GMT 06:42 2021 الإثنين ,15 شباط / فبراير

تعرف على أبرز مميزات وعيوب سيارات "الهايبرد"

GMT 00:55 2017 السبت ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

طالب يعتدي على مدرسته بالضرب في مدينة فاس

GMT 11:02 2023 الأربعاء ,25 تشرين الأول / أكتوبر

أفضل العطور لفصل الخريف

GMT 11:55 2023 الأحد ,05 شباط / فبراير

نصائح لاختيار الحقيبة المناسبة للمعطف

GMT 16:56 2023 الإثنين ,09 كانون الثاني / يناير

حكيمي ومبابي يستمتعان بالعطلة في مراكش

GMT 07:48 2022 الأربعاء ,19 تشرين الأول / أكتوبر

إتيكيت التعامل مع الاختلاف في الرأي

GMT 09:59 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

قواعد اتيكيت نشر الغسيل

GMT 10:31 2022 الجمعة ,27 أيار / مايو

مايكروسوفت تطور دونجل لبث ألعاب إكس بوكس

GMT 01:02 2021 السبت ,07 آب / أغسطس

وصفات طبيعية لتفتيح البشرة بعد المصيف

GMT 19:36 2020 الإثنين ,08 حزيران / يونيو

وفاة ابنة الفنان الراحل محمد السبع
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib