ناظر الكلمات

ناظر الكلمات

المغرب اليوم -

ناظر الكلمات

سمير عطا الله
بقلم : سمير عطا الله

صديقنا ميسور ومحظوظ. والأول نتاج الثاني في منطق الأشياء وشواهد الزمان. وصديقنا رجل طيّب، كثير الحظ، قليل العلوم، بديع الحضور. ليس له من القامات وفر، لكن له من المؤانسة فيض دائم.
سافر إلى القارة السمراء يافعاً، وقد حفظ بضع كلمات من الإنجليزية، وجمع ليرات من توفيره. ومن حظه، أن كلمات الأفارقة الإنجليزية كانت قليلة هي أيضاً، ولذا جرى التفاهم بالكثير من أموال المواطنين والقليل من فصاحة الفريقين. ولم يكن لصديقنا مهنة، أو حرفة، أو علوم. فقرر أن يوظف الناس تعمل عنده. هو الوسيط بين فريقين: الأول يبيع، والثاني يشتري، وهو يقبض من الاثنين ويهنئهما على حسن الاختيار.
تعلم في أسواق أفريقيا وألوانها وبهرجتها أن يفعل عكس الأفارقة. هم يسرفون بلا حساب ويصرفون بلا وجل، فأخذ يقتر بلا حساب ويصرف بوجل، علاوة على رجفة باليد اليمنى ورعشة في جفن العين اليسرى. ولم يكترث قليلاً أو كثيراً لسمعة البخل التي نمت حوله في أوساط الجالية. وما كانوا يعتبرونه غلوا في الحرص، كان يراه حكمة في السلوك والمسرى. وكان كلما تضخمت ثروته قلل من قاموس الكلمات التي حفظها. ومع السنين أتقن، مثل الجميع، اللغة العامية: كلمة «سواحيلي» كلمة إنجليزية من ست كلمات «أوكي». وكان يشكر الله كل يوم على فضله تعالى في وجود «أوكي»، وإلاّ لكان هو وأفريقيا، والمبادلات التجارية في مأزق.
الظرف والبخل، مثل خطّين مستقيمين، لا يلتقيان. حظه حقق المعجزة. بخيل مثل بخلاء الجاحظ، ومسلٍّ مثل بديع الزمان ومقاماته. وكان يأتي كل صيف لزيارة الأهل والأصدقاء، وبدل أن يحمل لهم الهدايا، يحمل «مقامات» جديدة من وضعه وتأليفه ومخيلته. وواضح من هذه الروايات أن له ضعفاً خاصاً حيال الأفيال وسكونيتها وحبها للبشر وتسامحها مع سائر الحيوان.
ويقول إن في هذا الكائن الهائل الحجم دعة اليمام وأنفة الصقور، ولا شيء يبعث فيه الغرور الفارغ. فهو مهما كبر، مثلاً، يعرف أنه لا يستطيع أن يغني، ومهما كان قوياً، فالفراشة أكثر جمالاً، ومعلم اللغة الإنجليزية الفقير يعرف أضعاف ما يعرف هو.
في نهاية المطاف قرر صديقنا العودة من القارة الأفريقية إلى القارة اللبنانية. واكتشف أنه لم يعد له فيها أحد، وأن الصداقات لا في سن متقدمة، وأن الزواج تعقَّد في مثل هذه السن، مثل الثقافة القائمة على بضع كلمات إنجليزية تلفظ بطريقة مضحكة تسندها «أوكي» بين كلمة وأخرى. تأخر على كل متع الحياة حتى القراءة. تذكّر ما سمع يوم كان طفلاً من القدامى الحياة قطار: حاول أن تفيد من سرعته وأن تفرح بمناظر النافذة، وتتعلم من رفاق الطريق، وتشكر الله على الوصول بخير.
سأل أصحابه كيف يحسن تمضية الهزيع الأخير؟ اتفقوا على رأي واحد: أن يتبرع ببناء مدرسة، وأن يوظف نفسه ناظرها، وفي دوراته أن يتلقف ما يستطيع من كلمات إنجليزية: لن يصدق أحد أن بذلك العدد من الكلمات غزوت القارة.

 

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ناظر الكلمات ناظر الكلمات



GMT 16:20 2024 السبت ,15 حزيران / يونيو

سنوات يوسف العجاف

GMT 16:18 2024 السبت ,15 حزيران / يونيو

غزة ومحكمة العدل الدولية

GMT 16:12 2024 السبت ,15 حزيران / يونيو

هل يفسد أتباع إيرانَ الحج؟

GMT 16:10 2024 السبت ,15 حزيران / يونيو

أوروبا أمام مرآتها المتحركة

استوحي إطلالاتك لسهرات عيد الأضحى من من ديانا كرزون

القاهرة - المغرب اليوم

GMT 08:16 2024 الإثنين ,27 أيار / مايو

إصابة وزير الثقافة المغربي بفيروس كوفيد -19

GMT 15:03 2024 السبت ,08 حزيران / يونيو

نانسي عجرم بإطلالة رقيقة في حفل لـ "Tiffany and co"

GMT 18:02 2024 الأربعاء ,01 أيار / مايو

الذهب يسجل أدنى مستوى في 4 أسابيع

GMT 17:22 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

أخطاؤك واضحة جدًا وقد تلفت أنظار المسؤولين
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib