ليبيّات فبراير والصوت النسائي

ليبيّات فبراير والصوت النسائي

المغرب اليوم -

ليبيّات فبراير والصوت النسائي

فاطمة غندور
بقلم : فاطمة غندور

في جيلي، فتحنا أعيننا كطالبات، ولجنا معهد المعلمات في أول الثمانينات من القرن الماضي، على عشرات من الضباط يملأون معهدنا، فيهم حرس بالباب، وفيهم من يجولون طوال ساعات الدوام بساحة المعهد الكبيرة، كما ثلاثة مكاتب إدارية، أفخمها مكتب آمر ومسؤول ما سُميت لاحقاً "ثكنة الشيماء للمعلمات". وفي مبتدأ العام الدراسي الأول، رأينا شاحنة كبيرة تقف أمام باب المعهد، فيها مئات من البدل العسكرية ذات اللون الأخضر وأحذية سوداء، بعد أقل من شهر على انتظامنا، كنا مرتديات الزي العسكري، جرى تنصيب طالبات منّا برتبة عريف ونائب عريف! وترسيمنا ومنحنا رقماً وشارة لنتبع القوات الجوية بالجيش النظامي.
 
طالتنا دروس رفقة مجندين في أسابيع تدريبية بقاعدة عسكرية، كانت كل المعاهد والثانويات بليبيا بقرار السلطة قد تعسكرت، شوارعنا كما حال النفير والحرب، وما عُلق على الجدران من لافتات، هي دعاية وإعلان، للشعب المسلح، غير القابل للهزيمة ولا للحصار، والضخ بالعسكرة نزل ببرامج التلفزيون، والراديو، وعناوين ومقالات جرائد السلطة. "ثكنة الشيماء للمعلمات" هي المعسكر الذي أمضيت سنوات خمساً به، فيها سنون مراهقتي، يبدأ يومنا بالجمع الصباحي، ثم تتوالى الحصص العسكرية بموازاة المنهج الدراسي، ونهاية اليوم من لزوم ما يلزم وقوفنا مصطفات لـ"جمع الأوامر" أمام آمر الثكنة. تلقيت عقوبة ذات مرة لرفضي الالتحاق بكردوس، سيشارك بالاستعراض في حفل بالساحة الخضراء، لم يكن السبب رفضي للحفل فمن يجرؤ، بل رفضي لتلك المفردات التي أمطرني بها مُدربنا العسكري حين أخطأت مشيتي، ولم أنضبط متراصفة بالفصيل، صاح فيّ شتماً: يا خرقة، يا تُحفة، يا زمالة انضمي انضمي يميناً، يميناً خُذ، فصحت فيه أنا معلمة، ولست تُحفة و.. و.. وغداً سأتخرج، وأعلم ابنك أو حفيدك. نلتُ عقاباً (تذنيب) وقوفاً لساعة بشمس ظهيرة، واستدعاء ولي أمر، وتوقيع تعهد ألتزم فيه باتباع الأوامر وإلا الطرد نصيبي.
 
سأغادر مهنة التعليم، وأتجه الى الإعلام منتصف التسعينات، حين واصلت دراستي الجامعية، فعيّنت في الإذاعة موظفة بقسم الأخبار، قارئة ما أُمنح من ورق محرّري ومعدّي تقارير إخبارية، من موظفين عرب، فالمحطة تحمل اسم "صوت الوطن العربي الكبير"، المحطة التي مُنع فيها ذكر الأسماء في البث اليومي. وفيها ذات مرة، حين تأخر قارئ نشرة الظهيرة، أخذت الأخبار ونزلت للاستديو لتقديمها، فواجهني فني الصوت، قائلاً ممنوع ممنوع قرار من الإدارة، لما سألت لماذا؟ جاء الرد أن أوامر عليا تمنع أي صوت نسائي يقرأ الأخبار، كما أن تُقدم لفقرة خطاب القائد اليومية! كان التلفزيون المحطة الوحيدة يلعلع بتحرير المرأة، وما منحها الأخ القايد من تشريعات حقوق وحريات، فليس كمثلنا بلد في ذلك، كما يُلقي خطاباته في طوابير من نساء، نساء القائد يهتفن بحياته ونظريته الحل النهائي، فيهن: تشكيلات ثورية، لجان ثورية، مقاومة شعبية، راهبات ثوريات، حارسات للقائد، كما في لجان التصفية الثورية. أتذكرهن حين كنا نساق بالباصات تلميذات الشهادة الإعدادية، لنتفرج على مشهد الإعدام بساحة كلية، وداخل حرم جامعة طرابلس، فمع الطلبة، مشهد طالبات أكبر منا، يصرخن مطالبات بقطع الأوصال، ومزيد من النحر، للرجعية الجبانة، وأعداء قائد "الثورة" التي ظل حالنا فيها معه أربعين سنة، نبذاً لقيام دولة القانون ومؤسساتها، وطال اللعن ليبين بالخارج عارضوه، فسماهم الكلاب الضالة.
 
جيلي الذي عايش كل هذه المشاهد وأكثر، ليس له أن يُصدق أن يأتي زمان، تخرج فيه نساء في تظاهرة يطالبن فيها بالقصاص، وأخذ الحقوق لضحايا أكبر جريمة ارتكبت في تاريخنا بسجن "أبو سليم"، كُن كل سبت من عام 2010 يقفن مطالبات بمعرفة مكان مقابر، أو استلام جثامين، لمئات من رجال عائلاتهن، وفيهم قُصّر، كان توقيت تظاهرة فبراير 2011، ما خرجن فيه مطالبات بإطلاق سراح محامي دفاع القضية، أصواتهن وإن نُسيت وغُيّبت اليوم، هي ما عنونت بزوغ ثورة شباط (فبراير) 2011، ومن بنغازي، ولاحقاً تظاهرتهن وإعلان مواقفهن، ستتوالى لسنوات، عقب كل حدث في مشهد الثورة، وبمثله برزن كأصوات للتغيير في فضائيات العرب والعالم، أصوات مستقلة أو من انضوت تحت تيارات سياسية محافظة أو علمانية، أو إسلامية، ففي لحظة الثورة ليس بالإمكان أن نخطط أو نضع جدولة لمن سيخرج ضد الدكتاتورية، فلكل مظلمة ينشد حقه وإنصافه، أو حتى انتقاماً ومغانم كما شهدت المراسلة الصحافية الفرنسية ماري - لو في كتابها "تاكسي الى بنغازي"، حين تلقت كوب ماء، من مقاتل ليبي عائد من أفغانستان، وانخرط بلحظة الثورة الليبية.
 
نضال الليبيات اليوم وفق إرادتهن وخيارهن المستقل من دون وصاية أو مظلة حاكم، ما زال متواصلاً، منذ شباط (فبراير) 2011 ينشدن تمكيناً سياسياً واقتصادياً، وسلكن مبتدأ في ذلك، تأسيس وقيادة وعضوية لأحزاب، فترأست وسيلة العاشق حزب الأمة، وفاطمة باقي حزب الكرامة، ولعل ترشحهن للانتخابات (مترشحات عن دوائر) سجل فارقة في تاريخ العمل السياسي عقب ستين عاماً من غياب صندوق الاقتراع، وجاءت فيها مقاعد الليبيات متجاوزة بنسبتها عام 2012، مقاعد المرأة لتيار مدني في جارتينا مصر وتونس، وقد دفعت الليبيات ـ وما زلن ـ لأجل ذلك دماً، وطالهن عنف لفظي وجسدي، كاغتيال الناشطة المدنية سلوى بوقعيقعيص ببنغازي عشية تصويتها عام 2014، والنائبة البرلمانية فريحة البركاوي بمدينة درنة حين امتلأت بالدواعش قبل تحريرها 2017، وظل السلاح معضلة تهدد خلق مناخ لحياة ديموقراطية/مدنية للرجل والمرأة على السواء، ما واجهته أكثر من خمسين عضوة ترشحن بالمجالس المحلية، حيث تتيح آلية الانتخاب مقعداً للمرأة على مستوى ليبيا، تؤدي فيها أدواراً عدة.
 
خرجت منهن عميدتان لبلديات بمدن أطراف، وقمن بمهام في رأب صدع النسيج الاجتماعي بعد الحرب، وفي العمل المدني إزاء النازحات وأسرهن، وقعُهن على الأرض برغم التطرف الذي يشهر سلاحه في فعل إقصائهن، عافرت الليبيات بأنشطتهن بمنظمات المجتمع المدني في كل ميادينه، الذي لم يكن متاحاً في ما مضى، تحديات ومصاعب تواجهها النساء اليوم، منها ما يتعلق بالوعي بالدور، بالمرحلة التي هي بناء وتأسيس على أكثر من جبهة سياسية، اقتصادية، أمنية، الوعي بضرورة تطوير الذات، وإغناء التجربة بمفاعيل على الأرض، وليس منابر وصالات تنظير، واستعراض شهادات الأوهام بالألقاب والمسميات، الليبيات في واقع التغيير، وفعل الإرادة كما مثيلاتهن في منطقتنا التي تموج بمطالب تحسين الأوضاع ونيل الحقوق، تتزايد الصعوبات أمامهن، والأثمان المدفوعة بمواجهتها، لأجل أن ينتزعن حقهن مساواة وعدالة، ولأجل مقاومة وضعية حجبهن وإقصائهن من المتطرفين أعداء الحياة. 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ليبيّات فبراير والصوت النسائي ليبيّات فبراير والصوت النسائي



GMT 18:42 2024 الجمعة ,26 إبريل / نيسان

الأميرة للا مريم تترأس اجتماعا بالرباط
المغرب اليوم - الأميرة للا مريم تترأس اجتماعا بالرباط
المغرب اليوم - جراحون يزرعون للمرة الثانية كلية خنزير لمريض حي

GMT 06:51 2024 الإثنين ,22 إبريل / نيسان

أفضل أنواع الستائر الصيفية لإبعاد حرارة الشمس

GMT 17:53 2024 الثلاثاء ,09 إبريل / نيسان

محمد صلاح يضيف لرصيده 3 أرقام قياسية جديدة

GMT 13:50 2012 الخميس ,08 تشرين الثاني / نوفمبر

البيئة النظيفة.. من حقوق المواطنة

GMT 21:44 2021 الأحد ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

أشهر الوجهات السياحية المشمسة في الشتاء

GMT 00:48 2021 الإثنين ,04 تشرين الأول / أكتوبر

إسبانيول يفاجئ ريال مدريد بخسارة مؤلمة

GMT 00:06 2021 الأحد ,03 تشرين الأول / أكتوبر

مباراة "قناة رقمية" تثير تساؤلات في جامعة أكادير

GMT 21:44 2019 الإثنين ,01 تموز / يوليو

تنتظرك تغييرات في حياتك خلال هذا الشهر

GMT 22:47 2012 الأربعاء ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

إشتقت إلى الرقص الشرقي وسعيدة بـ"30 فبراير"

GMT 11:34 2024 الثلاثاء ,09 إبريل / نيسان

بايرن ميونخ يرفض رحيل توماس توخيل
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib