من يفرض التعايش

من يفرض التعايش؟

المغرب اليوم -

من يفرض التعايش

محمد الأشهب

في أكثر من رقعة عربية مضطربة، تواجه جهود الأمم المتحدة عبر ممثليها صعوبات وعراقيل في الاضطلاع بدورها في إطفاء الحرائق، وجمع الفرقاء المتناحرين إلى طاولة مفاوضات حقيقية، من سورية إلى اليمن، ومن ليبيا إلى الصومال والسودان. لا تهدأ نيران الاقتتال إلا من أجل معاودة الاندفاع بوتيرة أكثر عنفاً.

هل مصدر الصعوبة قائم في مساعي النظام الدولي، أم في طبيعة الأزمات ومساراتها التي ما فتئت تتسع على الرتق؟ الأكيد أن بنيات المعضلات الأمنية والسياسية وتداخل الأدوار الإقليمية، عوامل أفضت إلى تشابكات يصعب الإمساك بخيوطها الرفيعة التي تسمح بتفكيك العقد والمفاصل.

في ليبيا يبدو صراع الشرعية قابلاً للاستمرار إلى حين الإجهاز على آخر نبض يشي بإمكان استعادة سلطة الدولة والقانون. طالما أن السلاح والمال يتدفقان لإذكاء التناحرات، في ظل بيئة حاضنة، تضافرت كل عناصرها في الإبقاء على الفوضى والتوتر وانسداد الآفاق. ولم يعد باستطاعة غير الليبيين فعل شيء ينقذ ما تبقى من بلادهم، حتى أن صرخات التدخل عسكرياً لم تجد الآذان الصاغية.

الفرنسيون الذين كانوا أكثر حماسة انكفأوا في مواجهه تداعيات الهجمات الإرهابية، ولم يستفيقوا بعد على حقائق أن تدخلهم العسكري في مالي سمح لتنظيمات متطرفة بمعاودة الانتشار إلى فضاءات مجاورة. بينما حولت «داعش» بوصلة الاهتمام الدولي إلى مستنقعها الذي انتشر في غفلة من الجميع. ولم يعد وارداً قيام تحالف أكبر وأوسع يضرب في أكثر من مكان.

في اليمن أيضاً، ارتخت النباهة أمام زحف الحوثيين الذين أفادوا من تحالفات عدة، حتى إذا بسطوا نفوذ السلاح والمرجعية على مفاصل الدولة، تداعت أطراف داخلية وإقليمية، تبحث عن أقصر الطرق إلى وقف المأساة. وفي الحالتين اليمنية والليبية استنفذت الأمم المتحدة أقصى جهد ممكن، من دون الوصول إلى نتائج مشجعة، من دون استثناء أم الأزمات المتمثلة في عنف القضية السورية.

الراجح أن جهود الأمم المتحدة تبدو أقرب إلى الفعالية والنجاعة، عندما يتعلق الأمر بنزاعات بين الدول، كون مرجعيتها وآلياتها ومنطوق تدخلها يروم حفظ الأمن والسلام. لكنها أمام الأزمات الداخلية تكون أقل حرية في الحركة وطرح أو فرض المبادرات القابلة للتنفيذ والاستمرار. فالعقوبات الزجرية ذات الطابع الاقتصادي تكون أجدى، إذ تعرض على الدول، فيما التوصيات التي تضع خطوطاً حمراً أمام التنظيمات والمؤسسات والشركات، نادراً ما يتسم مفعولها بالقوة الإلزامية والأثر قريب المدى.

باستثناء حالة العراق في عهد الرئيس الراحل صدام حسين، لم تتشكل قوات وآليات عسكرية لرقابة حظر الأنشطة الاقتصادية والتجارية التي يسري عليها مفعول المنع. ولا تبدو الأمم المتحدة في وارد دعوة مجلس الأمن لاتخاذ قرارات بنشر قوات التدخل العسكري في مناطق التوتر. فيما الجامعة العربية المعنية أكثر من غيرها باشتعال الحرائق في رقع عربية، لا تملك الإمكانات ولا المناخ المشجع الذي يجعلها تمارس دوراً مؤثراً. ومنذ التصديق على تجربة قوات الردع العربية إلى لبنان، صارت الجامعة العربية أكثر توجساً لاقتراح مساعي سياسية بأذرع عسكرية.

لكن ثمة تجربة مماثلة أفضت إلى إنهاء الحرب الطائفية في لبنان، وتوجت بإبرام اتفاق الطائف الذي صاغ مرجعية الوئام اللبناني. ولعلها الوحيدة التي أظهرت أن الإدارة العربية حين تنصهر في عمل جماعي ملتزم تحت مظلة الإجماع تستطيع اختراق كل الحواجز.

لا مجال للمقارنة بين أوضاع وقتذاك وأنواع الأزمات المستشرية على طول وعرض الجسد العربي، إلا أن الثابت في غضون ذلك أن لجنة الحكماء الثلاثية التي ضمت القادة الراحلين فهد بن عبد العزيز والحسن الثاني والرئيس الشاذلي بن جديد، انبثقت من قرار القمة العربية الطارئة في الدار البيضاء، وسلكت منحى الحوار والتفاوض، بعدما أبعدت خيار استخدام السلاح.

اليوم تبدو أفضل الاتفاقات وكأنها ما أبرمت إلا لكي تتعرض للخرق والانتهاك، وضمنها اتفاقات رعتها الأمم المتحدة. فكيف يكون لاتفاقات عربية قوة الالزام، بينما تنهار أخرى.

تغيرت الأوضاع العربية كثيراً، لكن لا يزال في الإمكان تجربة تغيير آخر يصب في مصلحة تثبيت الأمن والاستقرار والتعايش بين الفرقاء المتناحرين في أكثر من رقعة. كيف سيحدث ذلك، لنترك الأمور إلى فعل الزمن. فهو أقوى رجاحة من أي استقراء آخر.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

من يفرض التعايش من يفرض التعايش



GMT 02:13 2024 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

نسور استراتيجية

GMT 02:12 2024 الإثنين ,22 إبريل / نيسان

من مونيكا إلى ستورمي

GMT 02:08 2024 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

الذكاء الاصطناعي يتحدى إيمانويل كانط

GMT 02:04 2024 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

زوجة واحدة لا تكفي!

GMT 02:01 2024 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

تدليل أمريكي جديد لإسرائيل

GMT 01:57 2024 الإثنين ,22 إبريل / نيسان

«العيون السود»... وعيون أخرى!

GMT 01:52 2024 الإثنين ,22 إبريل / نيسان

إيران وإسرائيل والمسرحية.. والمتفرجون

GMT 01:48 2024 الإثنين ,22 إبريل / نيسان

الإمارات.. إدارة الأزمة بفعالية

GMT 18:42 2024 الجمعة ,26 إبريل / نيسان

الأميرة للا مريم تترأس اجتماعا بالرباط
المغرب اليوم - الأميرة للا مريم تترأس اجتماعا بالرباط

GMT 06:51 2024 الإثنين ,22 إبريل / نيسان

أفضل أنواع الستائر الصيفية لإبعاد حرارة الشمس

GMT 17:53 2024 الثلاثاء ,09 إبريل / نيسان

محمد صلاح يضيف لرصيده 3 أرقام قياسية جديدة

GMT 13:50 2012 الخميس ,08 تشرين الثاني / نوفمبر

البيئة النظيفة.. من حقوق المواطنة

GMT 21:44 2021 الأحد ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

أشهر الوجهات السياحية المشمسة في الشتاء

GMT 00:48 2021 الإثنين ,04 تشرين الأول / أكتوبر

إسبانيول يفاجئ ريال مدريد بخسارة مؤلمة

GMT 00:06 2021 الأحد ,03 تشرين الأول / أكتوبر

مباراة "قناة رقمية" تثير تساؤلات في جامعة أكادير
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib