بعد مسار أمضاه في طلب العلم، والتّعليم، والتربية الصوفية، والكتابة عن العرفان ومحبّة رسول الله؛ رَحَل عن دنيا النّاس شيخ زاوية خندق الصُّلّاح محمد المختار الحسني الوزاني، عن سنّ ناهز 76 سنة، تاركا ما تعلَّمَه لمرتادي زاويته بتاونات ومريديه، وما كتبه ونُشِرَ مثل كتابي "رباط المعاني"، و"الجامع المختار للصّلوات المحمّديّة"، وما كُتِبَ دون أن يُكتَبَ له النشر بعد.
ويقول محمد التهامي الحراق، أستاذ الإسلاميات والتصوّف، إنّ الفقيد من مواليد الزاوية الوزانية بإقليم تاونات، وتتلمذ على يد والده المختار الحسني الوزاني، الذي أخذ عنه التفسير، والحديث، والفقه، والفرائض، والعربية، والبلاغة، والشّعر، وهو ما مكّنه من ولوج جامعة القرويين في فاس للدّراسة، ليصير في وقت لاحق شيخ زاوية خندق الصُّلَاح بتاونات، المتفرعة عن الطريقة الوزانية الأمّ بمدينة وزّان.
ويضيف الحراق، أنّ الشيخ الفقيد اشتغل في الإدارة التربوية زهاء 40 سنة، ثمّ عكَف بعد ذلك على التّأليف، واشتغل على تفسير القرآن الكريم، وعلم النّفس التربوي، ولاسيما التربية الصوفية، واستطاع أن يُنتِجَ أعمالا كُبرى، من بينها كتاب "رباط المعاني"، الذي هو كتاب صوفيّ عرفاني، فيه حديث عن الحقائق العرفانية والصوفية، و"تُحفَتُه الأساس، التي ربّما ستُخَلِّدُ اسمَه في الصّالحات عبر الأجيال والأزمنة"، وهي: عمَلُه "الجامع المُختار للصّلَوات المُحمَّديّة".
ويضيف المتخصّص في الإسلاميات والتصوّف: "الجامعُ المختار للصّلوات المحمَّديّة" مؤلَّف كبير جمع فيه الصّلوات التي أنشأها وأبدعها، وفتح الله عليه بها، وهي صلوات في غاية الرّوعة، وغاية البهاء، وغاية الجمال، جمعها في هذا العمل الضّخم الذي وصل في طبعة سنة 2017 إلى خمسة أجزاء، من 52 سِفرا، يضمّ ما يقارب 26 ألف صلاة على النبي، جعل لكلّ منها عنوانا لا يُكرِّرَ العنوانَ الآخر، مع ما لهذا من ثراء مُعجَميّ، وبهاء في اللّغة، ورونق في البناء، وأسلوب يفيض عن صدق محبّة رسول الله.
ويسترسل الباحث نفسه قائلا: "هذا عمل رفيع، ومتميّز ومتفرِّد، ويكاد يكون لا نظير له بهذا الحجم والكمّ، والجودة والجمال". ثم يستشهد بواحدة من أجمل الصلوات التي كان يردّدها في المجامع والمحافل: "اللّهمّ صلّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمّد، نبيك وحبيبك القائل: ما اختلَط حُبِّي بقلب أحد فأحبَّني، إلا حرَّم الله جسدَه على النّار، وعلى آله وصحبه، صلاة تُديمُ بها فينا نعمةَ حُبِّه، يا حليمُ يا كريم يا غفّار"، كما يستشهد بصلاة من جميل صلوات الراحل في طلب الشّفاء، يقول فيها: "اللّهمّ صلّ وسلّم وبارك على سيّدنا محمّد، البلسم الشّافي، والدّواء الكافي، وعلى آله وصحبه، صلاة تعفو بها وتعافي".
ويزيد التهامي الحرّاق: "كان الرّجل متفرّدا على هذا المستوى، ويكاد يكون توقيعا خاصّا في عصره، لأنّه لم يَثْبُت على أحد أن ألّف في الصلاة على رسول الله بهذا النّفَس، وبهذا الفيض، وهذا العمق، وهذا التفنّن، ما يدلّ على محبّته الخالصة والصّادقة له".
ويزيد الباحث مستحضرا مسار الفقيد محمد المختار الوزاني فيقول: "كان يقوم بالدّور التربويّ التَّسليكيِّ على نهج وأصول الطّريقة الوزّانية الشاذلية الزروقية، وكان خطيبا في زاويته، ويلقي دروسا متعدّدة فيها في علوم الشّرع، وكان كلّما حضَرَ في المحافل الخاصّة والزّوايا والملتقيات والمواسم، أُسنِدَ إليه الحديث ليقول كلمة أو موعظة".
كما ذكّر المتحدّث بإسناد الختم إلى الفقيد بالدّعاء في الذكرى الرابعة عشرة لوفاة الملك الحسن الثاني، في الحفل الذي ترأّسَه أمير المؤمنين محمد السادس، وذكّر بما أثاره هذا الدّعاء من الانتباه، وما حرَّكَه من خشوع الحضور، لخصوصية لغته والأفق الذي استعمل، لتَكلُّمِه بلغة وجدانية، عرفانية، روحانية، ربانية، غير مألوفة، ما أعطى لمسة عرفانية صوفية مميّزة لهذا الدّعاء.
ومن نماذج إبداعات الفقيد في الدّعاء، وفق ما يشهد به المتخصّص، ما قاله الرّاحل حين طُلِبَ منه ختم مجلس للذّكر، ومحفل للمديح فرحا برسول الله عندَ إحياء اليوم السّابع للمولد النّبويّ، بضريح مولاي التهامي بمدينة وزان؛ "ابتكاره دعاء جعلَه يدور حول كلمة ربّما لا نلقي لها بالا، لأنّها بدون معنى، وجعلها بمعانٍ عرفانية وأذواق ربانية وإشارات روحانية تُحَرِّك مواجيد الحاضرين، وهي: هكذا".
ويزيد التهامي الحراق: "ممّا أتذكَّرُ قولُه: اللهمّ كما جمعتَنا هكذا، فلا تجمعنا إلّا هكذا… (إلى أن يقول) حتّى نلقاك هكذا، وترحمنا بـ… هكذا، لأننّا كنّا هكذا…"، وهو ما استشَفَّ منه المتحدّث "إبداعا في الدّعاء على مستوى المبنى والمعنى".
ويرى المتخصّص في التصوف أنّ للرّجل خُلَّتَين: "الحبُّ الفائض لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، الذي أثمر العمل المتميّز الذي يكاد يتفرَّدُ به في زمانه بطريقة كتابته، وإبداعيّتُه النّابعة عن صدقه في محبة رسول الله".
وعن الأعمال غير المنشورة للفقيد، يقول التهامي الحراق: "له تقاليد إشارية صوفية على القرآن الكريم، ومن الأكيد أنّ له فتوحات في التأمّلات العرفانية، ويمكن أن يُبحَثَ عن هذا، ويُساعَد على إخراجه".
وعدّد المتخصّص في الإسلاميات والتصوّف مجموعة من النصوص الرائدة في المديح النبوي في التاريخ المغربي مثل: "دلائل الخيرات"، و"ذخيرة المُحتاج في الصلاة على صاحب اللواء والتاج"، و"كنوز الأسرار في الصلاة والسلام على النبي المختار"، ليضيف: "في "الجامع المختار في الصّلوات المحمّديّة"، نحن أمام تأليف متميّز، يضاف إلى لوحة من التآليف المغربية في الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم".
ثمّ أجمل محمد التهامي الحراق في ختام تصريحه قائلا: "إلى جانب البعد العلميّ الذي كان متألِّقا وبارعا ومتمكّنا فيه، كان له نفس خاصّ في محبة رسول الله، وهو ما أعطانا تحفته "الجامع المختار في الصّلوات المحمّديّة"، التي تعتبر تحفة في العالَم الإسلاميّ."
قد يهمك ايضا
أبو القاسم يؤكّد أنّ "مولانا الشيخ جواب" تتحدث عن الصوفية وعوالم الذات
"الحضرة" تحيي حفلا صوفيا بساقية الصاوي 13 ديسمبر
أرسل تعليقك
تعليقك كزائر