العلبة السوداء للإدارة

العلبة السوداء للإدارة

المغرب اليوم -

العلبة السوداء للإدارة

بقلم - توفيق بو عشرين

كان الزعيم علال الفاسي يقول، في سنوات الاستقلال الأولى: «ليس هناك في المغرب إلا قوتان.. قوة القصر وقوة الحركة الوطنية». دارت العجلة وأصبحت الحركة الوطنية خارج المعادلة، فيما ضاعف القصر قوته متحالفا مع من يريد أن يشتغل عنده ويقبل بشروطه، ومن هؤلاء، التقنوقراط في الإدارة الذين أصبحوا قوة مؤثرة في الدولة، دون انتخابات ولا دستور ولا قانون، ولكن بفعل الأمر الواقع.
ما الذي يدفع الولاة إلى محاربة عمداء المدن، مثلا؟ ومن أين يأتون بهذه القوة؟ ما الذي يجعل الوالي أكثر هيبة في المدينة من رئيس المجلس البلدي؟ ما الذي يجعل وزير الداخلية هو القناة الرسمية التي تبلغ، في الغالب، التعليمات الملكية إلى رئيس الحكومة؟
إذا حاول المرء الحفر في أسباب «تسيس» الإدارة عندنا وتغولها، وانتقالها من أن تكون أداة للتنفيذ إلى أن تصير مركزا من مراكز القرار، سيجد أسبابا عديدة، أولها أن الإدارة في المغرب، الإدارة الحديثة، ولدت زمن الاستعمار، وتربت في حجر الحماية، وبطبيعة الحال لم تكن فرنسا لتخلق إدارة جديدة في خدمة الأهالي. بالعكس، وضع الاستعمار عقيدة الإدارة وقوانينها وآلياتها ضد المغاربة ومصالحهم. قبل الاستعمار لم تكن هناك إدارة بالمعنى الحديث للوظيفة. كان هناك جهاز مخزن مركزي، علاقته تقوى وتضعف مع الأطراف حسب الظروف والأحوال، وهذا الجهاز نفسه كان قائما على الطاعة والولاء، وبث الخوف في النفوس، تماشيا مع طبيعة الدولة في القرون الوسطى… لما جاء الاستقلال، ورث الحكم الإدارة عن المستعمر، لكنه لم يغير عقيدتها، بل استغلها لتركيز نفوذه، وتوسيع قاعدة حكمه. ولأن الديمقراطية لم تصاحب ميلاد دولة الاستقلال، فقد استمرت الإدارة، في المجمل، تلعب الدور القديم نفسه، والمتمثل في إخضاع المواطنين لا خدمتهم. انظروا إلى الناس العاديين، إلى اليوم، كيف يشعرون بالعبء والتبرم، وحتى الخوف من دخول إدارة أو مقاطعة أو كوميسارية أو محكمة أو قباضة أو عمالة… وأول شيء يبحثون عنه، قبل التوجه إلى الإدارة، هو شخص يعرفونه، ووساطة تسهل لهم ولوج الإدارة، لأن دخول الإدارة، بلا معرفة ولا وساطة ولا رشوة، محفوف بالمخاطر.
السبب الثاني الذي جعل النخب الإدارية تكتسب قوة ونفوذا في القرار العمومي، هو الصراع الذي كان بين الملك الراحل الحسن الثاني وأحزاب الحركة الوطنية، فعمد التقنوقراط إلى ملء الفراغ الحاصل بفعل طرد الوطنيين من الحكم، وجلب أحزاب السلطة مكانهم. هذه الأحزاب لم تكن تملك الخبرة ولا المشروعية. هنا فهم الموظفون السامون اللعبة، وسعوا إلى الاستفادة من الصراع السياسي بين القصر وأحزاب المعارضة، فرسخوا ثقافة في الإدارة تعتبر الكاتب العام في الوزارة أهم من الوزير، والعامل أهم من رئيس المجلس البلدي، والوالي أهم من رئيس الجهة، والشرطي أهم من البرلماني… الأول يمثل الدولة، والثاني لا يمثل إلا الشعب.. ومن يكون الشعب؟!
لقد انتصر الملك الراحل، مرارا، لبعض الكتاب العامين في صراعهم أو خلافهم مع الوزير، الذي أجبر أحيانا على الاستقالة، أو الخضوع للأمر الواقع بعد خسارته المعركة أمام موظف في الإدارة. هذا الوضع جعل من التقنوقراط جسما سياسيا عوض أن يكونوا جسما إداريا، وجعل من الموظفين السامين ممثلين للقصر في الإدارة، لا يتلقون الأوامر إلا من الملك ومن محيطه. ومقابل هذا الولاء، استفاد رؤساء الجهاز الإداري من امتيازات وغنائم ووضع اعتباري كبير وغير مستحق، حتى إن بعضهم أصبح مليارديرا على ظهر الإدارة، وهذا وضع غير وجود في جل دول العالم.
السبب الثالث الذي يجعل الإدارة لها أجندة خاصة بها، هو اختراقها من قبل لوبيات المصالح، التي وجدت ثغرات كبيرة مكنتها من الدخول إلى بيت الإدارة، ودفع الموظفين السامين إلى وضع نصوص قانونية وقرارات إدارية تخدم مصالح الشركات الكبرى، ضدا على القانون والمصلحة العامة، وكل هذا بآليات وأساليب شيطانية تسخر آلة الإدارة لخدمة الفاسدين من رجال ونساء الأعمال. وهكذا تربى الريع انطلاقا من العلاقات المشبوهة بين الإدارة وبعض المحظوظين، حتى أصبحت لهذا الريع أظافر وأسنان وجرائد وإذاعات ولوبيات تدافع عنه، وتخيف وترهب كل واحد يقترب من إصلاح الوضع المختل. أصبح الإصلاح مكلفا جداً لهذه الإدارة، وضربا لهيبتها ونفوذها ومصالحها، وهذا هو الأهم والأخطر.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

العلبة السوداء للإدارة العلبة السوداء للإدارة



GMT 14:15 2024 الأربعاء ,15 أيار / مايو

في ذكرى النكبة..”إسرائيل تلفظ أنفاسها”!

GMT 12:08 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

مشعل الكويت وأملها

GMT 12:02 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

بقاء السوريين في لبنان... ومشروع الفتنة

GMT 11:53 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

“النطنطة” بين الموالاة والمعارضة !

GMT 11:48 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

نتنياهو و«حماس»... إدامة الصراع وتعميقه؟

أجمل إطلالات الإعلامية الأنيقة ريا أبي راشد سفيرة دار "Bulgari" العريقة

أبوظبي ـ المغرب اليوم

GMT 00:30 2024 الأحد ,28 إبريل / نيسان

يورجن كلوب يكشف تفاصيل مٌشادته مع محمد صلاح

GMT 15:07 2020 الإثنين ,12 تشرين الأول / أكتوبر

فائدة غير متوقعة لـ"3 قطع شكولاتة شهريا"

GMT 18:02 2019 الجمعة ,22 آذار/ مارس

برشلونة يفتح الباب أمام رحيل كوتينيو
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib