مرحلة ما بعد الحقد على المدن العربية

مرحلة ما بعد الحقد على المدن العربية

المغرب اليوم -

مرحلة ما بعد الحقد على المدن العربية

بقلم - خيرالله خيرالله

بعد مرحلة الانقلابات العسكرية، دخلت المنطقة مرحلة تدمير المدن والمجتمعات. وحدها بيروت صمدت في منطقة المشرق العربي بفضل رجل اسمه رفيق الحريري. ما الذي يجمع بين كل هؤلاء الدكتاتوريين الذين هبطوا على المدن العربية من خلال انقلابات عسكرية أو الشعارات ذات الطابع الديني؟ ما الذي يجمع بين جمال عبدالناصر ومعمّر القذّافي، مرورا بحافظ الأسد وصدّام حسين، وصولا إلى قادة الميليشيات السنيّة مثل “داعش” أو الشيعية التي تقف وراءها إيران والتي صار لديها انتشار في سوريا والعراق ولبنان واليمن؟

يجمع بين كلّ هؤلاء ذلك الكره للمدينة والحقد عليها وعلى أهلها بدل التعلّم منها ومنهم والاستفادة من كل ما توفرّه المدينة من أجواء تسمح بالاختلاط والتلاقح بين الحضارات المختلفة، وهو اختلاط يصنع فكرة التسامح والاعتراف بالآخر والتوق إلى الترقي والانتماء إلى كلّ ما هو حضاري في هذا العالم.

يروي دبلوماسيون عرب وأجانب أنّ العاصمة الليبية طرابلس كانت من أجمل المدن وأكثرها رقيّا قبل الانقلاب الذي قاده معمّر القذّافي في 1969. كانت هناك حياة اجتماعية وأماكن راقية في المدينة.

كانت طرابلس أقرب إلى مدينة إيطالية من أيّ مدينة أخرى في العالم العربي. قضت “ثورة الفاتح من سبتمبر” على المدينة وعلى فكرة تلاقي الحضارات فيها.

أسّس ما حصل في مصر مع مجيء “الضباط الأحرار” إلى السلطة في تموز- يوليو 1952 لسلسلة التحولات التي شهدتها المدن العربية. رويدا رويدا، قضي على القاهرة والإسكندرية.

لم يدر جمال عبدالناصر أن الأهمّ من تأميم قناة السويس، في العام 1956، كان المحافظة على الجاليات الأجنبية في القاهرة والإسكندرية والإسماعيلية والمدن الأخرى.

كان هؤلاء يبنون أماكن جميلة ويحافظون على المدينة وعلى فكرة الرصيف والحدائق والطرقات الواسعة والتخطيط المدني ويرفعون مستوى التعليم في مصر كلّها. ثمة من سيقول إنّهم كانوا مسؤولين عن الطبقية في مصر.

يمكن أن يكون ذلك صحيحا، إلى حدّ ما. ولكن ما البديل الذي جاء به عبدالناصر عندما سمح بتحويل أحياء القاهرة والإسكندرية إلى مناطق شعبية يقيم فيها ضباطه. ما مصير القاهرة والإسكندرية وما مستقبلهما ومن لا يزال يتذكّر الإسماعيلية وأماكنها الجميلة؟

كانت تلك نقطة البداية لاجتياح الريف للمدينة، تماما كما حصل في العراق حيث تعرّضت بغداد لغزوة البعثيين الآتين من قراهم للانتقام من المدينة. من يعرف شيئا عن البصرة حاليا باستثناء أنّها تشبه ضاحية فقيرة في مدينة إيرانية بعدما كانت في مرحلة معيّنة قبلة أهل الخليج، خصوصا أهل الكويت؟

الأمر نفسه ينطبق على دمشق التي لم تعد فيها كلمة تعلو على كلمة الضابط العلوي أو السنّي الريفي. حتّى اللاذقية لم تنج من اجتياح الريف. كانت المدينة تضمّ نخبة سورية خرج منها رجال مصارف ومقاولون كبار عرف لبنان قيمة عدد منهم عندما انتقلوا إليه في ستينات القرن الماضي.

كانت الإسكندرية مدينة سنّية-مسيحية. كانت علاقاتها بشمال لبنان من النوع العميق، فإذا بها تتحوّل إلى موقع لـ”الشبيحة” ولكل مراكز القوى التي أنتجها نظام حافظ الأسد وأشقاؤه ابتداء من العام 1970.

مع مرور الوقت، لم تعد مصر تؤثّر في العالم العربي. لم تعد القاهرة تلك المدينة التي ينطلق منها “التنوير” على كلّ صعيد. في السنوات الأخيرة من عهد حسني مبارك، صار قطاع غزّة الذي أقامت فيه “حماس” ما يمكن تسميته بـ”إمارة إسلامية” على الطريقة الطالبانية، نسبة إلى طالبان مؤثرا في مصر.

صارت القاهرة والإسكندرية تتأثران بغزّة، بدل أن يكون العكس هو الصحيح. في صيف العام 2009، شاهدت بنفسي مناظر مضحكة مبكية لنساء جلسن على شاطئ تابع لأحد فنادق الإسكندرية.

ما حصل في مصر مع مجيء "الضباط الأحرار" أسس لسلسلة التحولات التي شهدتها المدن العربية. رويدا رويدا، قضي على القاهرة والإسكندرية. لم يدر جمال عبدالناصر أن الأهم من تأميم قناة السويس، في العام 1956، كان المحافظة على الجاليات الأجنبية في القاهرة والإسكندرية والإسماعيلية والمدن الأخرى
أين مصر التي كانت تصدّر كلّ ما هو حضاري وتقدّمي إلى دول المنطقة، بما في ذلك لبنان في مرحلة ما. في تلك المرحلة، كان على كل فنان لبناني أن يذهب إلى مصر في حال كان يسعى إلى الشهرة الواسعة التي تفوق حدود الوطن الصغير.

ما نشهده حاليا من تدمير لكلّ مدينة في سوريا أو تغيير لطبيعتها نتيجة مباشرة لما خلّفه نظام حافظ الأسد، وهو شخص كان يكره المدينة ولا يتذكّر سوى المعاملة المذلة لبعض الإقطاعيين لأهل الريف. هذا كان صحيحا بعض الشيء فقط. لكن الصحيح أنّ الريف السوري لم يتطوّر في عهد حافظ الأسد أو في عهد وريثه. صار هناك إقطاع من نوع جديد فرضه ضباط علويون ينتمون إلى فئة معيّنة بالتحالف مع رجال أعمال من كلّ الطوائف يعملون لمصلحة عائلة واحدة، هي عائلة الرئيس أو عائلة أقربائه المباشرين.

من “ثورة23 يوليو” في العام 1952 إلى تدمير “داعش”، قبل أيّام، منارة الحدباء ذات الأهمّية التاريخية والتابعة لمسجد النوري في مدينة الموصل، مسافة خمسة وستين عاما. إنّه تاريخ طويل من الهزائم والنكسات توجت بالوضع الذي آل إليه المشرق العربي وقسم من شمال أفريقيا حيث يبقى المغرب الاستثناء الوحيد والأوحد بفضل ملوكه الذين حافظوا على المدينة وعلى النسيج الاجتماعي للمملكة.

بعد مرحلة الانقلابات العسكرية، دخلت المنطقة مرحلة تدمير المدن والمجتمعات. وحدها بيروت صمدت في منطقة المشرق العربي بفضل رجل اسمه رفيق الحريري المهووس بلبنان الذي سعى أيضا إلى إنقاذ سوريا ولكن من دون نتيجة.

ما الذي سيلي مرحلة تدمير المدن العربية؟ ذلك هو السؤال الكبير الذي سيطرح نفسه عاجلا أم آجلا. هل هي مرحلة المواجهة بين الميليشيات المذهبية التي ترعاها إيران والتنظيمات الإرهابية السنّية التي ولدت من رحم الإخوان المسلمين الذين ما زالوا يتحكّمون بغزة؟

الثابت أن المرحلة الجديدة في غاية الخطورة، خصوصا مرحلة ما بعد الموصل وتهجير أهلها على يد “الحشد الشعبي” الذي وجد في “داعش” خير حليف له من أجل تنفيذ مآربه.

الثابت أيضا أن ليس مسموحا بقاء غزّة تلعب دورا مؤثرا في الداخل المصري. ليس كافيا أن تردّ مصر على الإرهاب الذي استهدف أقباطها في المنيا بضربات يشنها سلاحها الجوي في ليبيا.

ثمة حاجة إلى الانتهاء من ظاهرة “الإمارة الإسلامية” في غزة التي أسست لمرحلة تدمير المدن والمجتمعات العربية. الانتهاء من هذه الظاهرة يحيي الأمل بعودة بعض الروح إلى الدور المصري وإلى رغبة في التصدي للمخاطر الآتية التي نتجت عن سنوات طويلة من التعلّق بالأوهام والشعارات التي أوصلت المشرق العربي وشمال أفريقيا إلى ما وصلا إليه من حال تشرذم تقود إلى سؤال كبير آخر: إلى أين سيذهب “الحشد الشعبي” الذي يتلقى تعليماته من إيران بعد الانتهاء من تدمير الموصل؟

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مرحلة ما بعد الحقد على المدن العربية مرحلة ما بعد الحقد على المدن العربية



GMT 07:19 2023 الثلاثاء ,01 آب / أغسطس

شكراً لعدم قتل العالم

GMT 07:17 2023 الثلاثاء ,01 آب / أغسطس

«وثائق» عن بعض أمراء المؤمنين

GMT 07:05 2023 الثلاثاء ,01 آب / أغسطس

محمد السادس «مخزن» الوضوح السياسي

GMT 06:01 2023 الخميس ,09 شباط / فبراير

ليست لغزاً ولا يحزنون

GMT 05:59 2023 الخميس ,09 شباط / فبراير

الزلزال القادم

نادين لبكي بإطلالات أنيقة وراقية باللون الأسود

بيروت ـ المغرب اليوم

GMT 13:52 2024 الثلاثاء ,30 إبريل / نيسان

اللون الذهبي يرسم أناقة النجمات في سهرات الربيع
المغرب اليوم - اللون الذهبي يرسم أناقة النجمات في سهرات الربيع

GMT 07:05 2024 الثلاثاء ,30 إبريل / نيسان

المغربية سميرة سعيد تُروج لأحدث أغانيها «كداب»
المغرب اليوم - المغربية سميرة سعيد تُروج لأحدث أغانيها «كداب»

GMT 11:02 2022 الأحد ,11 كانون الأول / ديسمبر

بيروت تتوالد من رمادها وتتزين بكُتابها.

GMT 06:42 2021 الإثنين ,15 شباط / فبراير

تعرف على أبرز مميزات وعيوب سيارات "الهايبرد"

GMT 00:55 2017 السبت ,25 تشرين الثاني / نوفمبر

طالب يعتدي على مدرسته بالضرب في مدينة فاس

GMT 11:02 2023 الأربعاء ,25 تشرين الأول / أكتوبر

أفضل العطور لفصل الخريف

GMT 11:55 2023 الأحد ,05 شباط / فبراير

نصائح لاختيار الحقيبة المناسبة للمعطف

GMT 16:56 2023 الإثنين ,09 كانون الثاني / يناير

حكيمي ومبابي يستمتعان بالعطلة في مراكش

GMT 07:48 2022 الأربعاء ,19 تشرين الأول / أكتوبر

إتيكيت التعامل مع الاختلاف في الرأي

GMT 09:59 2022 الأحد ,16 تشرين الأول / أكتوبر

قواعد اتيكيت نشر الغسيل

GMT 10:31 2022 الجمعة ,27 أيار / مايو

مايكروسوفت تطور دونجل لبث ألعاب إكس بوكس

GMT 01:02 2021 السبت ,07 آب / أغسطس

وصفات طبيعية لتفتيح البشرة بعد المصيف

GMT 19:36 2020 الإثنين ,08 حزيران / يونيو

وفاة ابنة الفنان الراحل محمد السبع

GMT 18:42 2018 الإثنين ,22 تشرين الأول / أكتوبر

أسما شريف منير ووالدها في برومو " أنا وبنتي"

GMT 17:19 2018 الثلاثاء ,08 أيار / مايو

عشر ماحيات للذنوب.. بإذن الله

GMT 09:05 2016 السبت ,02 كانون الثاني / يناير

عن «عاداتنا وتقاليدنا المتوارثة»
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib