معركة بين ثقافتي الحياة والموت في تونس

معركة بين ثقافتي الحياة والموت في تونس

المغرب اليوم -

معركة بين ثقافتي الحياة والموت في تونس

بقلم ـ خير الله خير الله

تقف تونس عند مفترق طرق. ستبيّن نتيجة الانتخابات النيابية ما إذا كان الإخوان المسلمون سينتصرون على الشعب التونسي، أم يُظهر هذا الشعب مرّة أخرى، وليست أخيرة، قدرته على المقاومة والوقوف في وجه التخلّف تمهيدا للتغلّب عليه وتجاوزه؟

بكلام واضح كلّ الوضوح، ستكون الانتخابات النيابية يوم السادس والعشرين من أكتوبر الجاري معركة بين ثقافتين، بين ثقافة الحياة وثقافة الموت.

تعني ثقافة الحياة، بين ما تعنيه، رفض التراجع أمام الشعارات البرّاقة التي ترفعها “النهضة” والتي تنطلي على السذج، نظرا إلى أنّها مجرّد استغلال للدين. تعني أيضا ضرورة الاستفادة من تجارب الماضي القريب وأخطائه. فإذا كانت “ثورة الياسمين” كشفت أمرا إيجابيا في تونس، فهي كشفت أن مجتمع هذا البلد ليس مستعدا للتخلي عن المكاسب التي تحقّقت منذ الاستقلال، والتي كان في أساسها رجل كبير اسمه الحبيب بورقيبة أقام دولة مدنية حقيقية، إلى حدّ كبير.

لم يتردّد الحبيب بورقيبة في اتخاذ أيّ خطوة تجعل من تونس على تماس مع كلّ ما هو حضاري في هذا العالم، بدءا بتكريس حقوق المرأة، عبر القوانين، وانتهاء ببرامج التعليم المتطورة، مرورا بتهذيب الذوق لدى المواطن العادي. بنى بورقيبة جمهورية عصرية. لم يتنكّر التونسيون والتونسيات لإرث بورقيبة. على العكس من ذلك، استندوا إلى هذا الإرث كي يمارسوا ثقافة المقاومة لكلّ ما ترمز إليه حركة “النهضة” التي ليست سوى غطاء للإخوان المسلمين الساعين للوصول إلى السلطة واحتكارها.

بنى الحبيب بورقيبة دولة عصرية قائمة على مؤسسات راسخة تعتمد، قبل كلّ شيء، على شخصيات مثقّفة بعضها ليبرالي، وبعضها الآخر يساري، وبعضها في الوسط. في كلّ وقت من الأوقات، استطاع باني تونس الحديثة ممارسة دور القائد الذي يعرف ماذا يريد، وكيف يضع كلّ إنسان عند حدّه، متى تجاوز هذا الحدّ. ولذلك، نجد أن عهد بورقيبة، الذي دام واحدا وثلاثين عاما، كان عهودا عدّة يجمع بينها شخص “المجاهد الأكبر” الذي لم يعرف، عندما تقدّم به العمر، أنّه بات عليه أن يتقاعد وأن يترك الساحة لغيره.

كان يريد من الجمهورية التونسية أن تستمرّ. وقد استمرّت. عندما خلفه زين العابدين بن علي في العام 1987، وجد ما يبني عليه. لكنّ بن علي لم يعرف أيضا متى عليه الانسحاب، فانتهى بالطريقة التي انتهى بها. كان عهده الطويل أيضا مليئا بالإيجابيات، لكنّه سمح للفساد بنخر تونس، خصوصا بعدما أصبحت ليلى بن علي “الرجل الأوّل” في البلد، بينما كان عليها أن تكتفي بدور السيّدة الأولى.

في السنوات الثلاث التي تلت رحيل بن علي، عملت “النهضة”، أي تنظيم الإخوان المسلمين، على السيطرة تدريجا على تونس. وضعت منصف المرزوقي في الواجهة. جعلت منه رئيسا للجمهورية. يتلخّص دور المرزوقي في تنفيذ السياسات الإخوانية لا أكثر. لعب الدور المطلوب منه بكلّ تفان، خصوصا أنّه اكتشف محاسن أن يكون الناشط السياسي، الذي لم تكن تهمّه الألقاب والمناصب في الماضي القريب، رئيسا للجمهورية.

تبيّن مع مرور الوقت أنه لا يمكن الاستخفاف بإرث بورقيبة. في كلّ محطة توقفت عندها الثورة التونسية، وُجد من يقاوم ومن يرفض الرضوخ لثقافة الموت استنادا إلى هذا الإرث.

أدرك التونسيون أنّ “النهضة” ستنقلهم من فشل إلى آخر. وأنّ المجيء بمهدي جمعة رئيسا للوزراء كان من أجل التغطية على فشل حكومتي علي العريض وحمادي الجبالي على كلّ صعيد. أتي بشخصية من خارج “النهضة” لتشكيل حكومة تكنوقراط، لعلّ ذلك يُنسي المواطن العادي ما حصل من تجاوزات وإخفاقات جعلت البلد يتراجع سنوات إلى الخلف، خصوصا في المجال الاقتصادي.

ترحّم الناس على عهد بن علي، على الرغم من كل الشوائب، بما في ذلك إلغاء السياسة والسياسيين. كانت شوارع المدن والبلدات والقرى التونسية نظيفة. لم يعد في عهد “النهضة”، الساعية أبدا إلى من يغطي فشلها، من يهتمّ حتى بجمع النفايات. فكيف بالاقتصاد والتعليم والأمن والسياحة والصناعات التحويلية، التي هي المصدر الأوّل للعملات الأجنبية؟

لعلّ أخطر ما شهدته تونس في السنوات الثلاث الأخيرة يتمثّل في تغلغل “النهضة” في أجهزة الدولة ومؤسساتها، عبر آلاف الموظفين الجدد الذين فُرضوا فَرضا على الإدارة التونسية. الهدف واضح. يريد راشد الغنوشي، زعيم الإخوان المسلمين الذي يتعمّد إلقاء خطاب معتدل وتوفيقي، حكم تونس من خلف الستار. يسعى الغنوشي، في الوقت نفسه، إلى عدم السقوط في الفخ الذي سقط فيه الإخوان المسلمون في مصر. ولذلك، يتظاهر بين حين وآخر باستعداده للمشاركة في السلطة وليس باحتكارها!

سيتوقّف على نتائج الانتخابات النيابية الكثير في تونس. هزيمة الإخوان المسلمين، في حال حصولها، ستؤكّد أن المجتمع التونسي ما زال يمتلك القدرة على المقاومة. الأهمّ من ذلك كله، سيظهر عندئذ أن التحايل لا يفيد مع التونسيين، وأن الفشل بالنسبة إليهم هو الفشل وليس لديه أيّ اسم آخر.

على سبيل المثال وليس الحصر، ليس طبيعيا أن تمرّ ممارسات المرزوقي وتصرّفاته على أحد. الرجل الليبرالي صار رئيسا للجمهورية، وصار أداة لدى الإخوان وناطقا باسمهم لا أكثر ولا أقلّ. ماذا فعل المرزوقي في مواجهة الإرهاب، خصوصا بعد اغتيال المناضلين شكري بلعيد ومحمد براهمي؟

لماذا لا يستطيع القول أن التحقيق في الجريمتين لم يتوصّل إلى نتيجة نظرا إلى غياب الرغبة لدى “النهضة”، التي باتت تسيطر على الأجهزة الأمنية، في التصدي للإرهاب، خصوصا لظاهرة التطرّف الديني؟

ورث التونسيون عن بورقيبة الجرأة. لذلك كان الدستور الحديث الذي فرضوه على “النهضة” وعلى كلّ المروجين للتخلّف. كان بورقيبة جريئا في الداخل والخارج. تصدّى لجمال عبدالناصر الذي أخذ العرب إلى كارثة حرب 1967، عندما كان لا يتجرّأ، إلا ما ندر من الحكام العرب، على قول كلمة نقد لسياساته الخرقاء. نصح الفلسطينيين بقبول قرار التقسيم قبل سقوط الضفة الغربية والقدس الشرقية وذلك إنقاذا لما يمكن إنقاذه.

هل يثبت التونسيون أن الجرأة، التي ورثوها عن بورقيبة، ما زالت سلاحهم الأمضى، وأن التخلّف ليس قدرا، وأنّه لا يزال هناك مجال لانتصار ثقافة الحياة على ثقافة الموت؟

موعد الانتخابات النيابية موعد مهمّ في تونس، حتّى لو كان هناك من يعمل منذ فترة على تزويرها بوسائل مختلفة. هذه الوسائل ليست بعيدة عن الخطاب التوفيقي، ظاهرا، الذي لجأت إليه “النهضة” لتمرير مشروعها القاتل لبلد يرفض شعبه الموت ويؤكد بنسائه، قبل رجاله، تعلّقه بثقافة الحياة.

المصدر : جريدة العرب

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

معركة بين ثقافتي الحياة والموت في تونس معركة بين ثقافتي الحياة والموت في تونس



GMT 16:06 2024 الأربعاء ,14 شباط / فبراير

هل الربيع العربي تاريخ وانتهى؟

GMT 17:27 2024 الأربعاء ,17 كانون الثاني / يناير

حكاية عن تونس

GMT 16:59 2023 الأربعاء ,06 كانون الأول / ديسمبر

الطيران وراء الجبل «هو الحل»

GMT 15:35 2023 السبت ,22 تموز / يوليو

تونس بين رياح أفريقيا وأمواج أوروبا

GMT 11:59 2023 الخميس ,11 أيار / مايو

كي لا يضيع السودان

نادين لبكي بإطلالات أنيقة وراقية باللون الأسود

بيروت ـ المغرب اليوم

GMT 13:52 2024 الثلاثاء ,30 إبريل / نيسان

اللون الذهبي يرسم أناقة النجمات في سهرات الربيع
المغرب اليوم - اللون الذهبي يرسم أناقة النجمات في سهرات الربيع

GMT 20:40 2021 الأربعاء ,01 أيلول / سبتمبر

مارسيل غانم يعود مع "صار الوقت" ويفتتح خريف MTV

GMT 10:30 2018 الأربعاء ,04 إبريل / نيسان

أجمل الأفكار لديكور طاولة العروسين في حفل الزفاف

GMT 06:20 2023 الخميس ,28 كانون الأول / ديسمبر

المركزي الصيني يضخ 421 مليار يوان في النظام المصرفي

GMT 09:35 2023 الأحد ,05 شباط / فبراير

وما أدراك ما أشباه الرجال!

GMT 20:35 2023 الأحد ,15 كانون الثاني / يناير

الإمارات تُطلق تحالف إعادة تدوير الألومنيوم

GMT 08:22 2018 الخميس ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

"لاند روفر ديفندر" تعود بإمكانيات مطورة عام 2020

GMT 21:06 2018 الإثنين ,05 تشرين الثاني / نوفمبر

الحموشي ينشر عناصر أمنية فى الأحياء الشعبية لسلا

GMT 20:37 2018 الأحد ,14 تشرين الأول / أكتوبر

الإعلامية زينة يازجي تعود إلى "الشاشة" من جديد

GMT 05:28 2018 الأربعاء ,09 أيار / مايو

حقيبة الظهر من"بولغاري" تناسب المرأة الأنيقة

GMT 10:54 2018 الإثنين ,29 كانون الثاني / يناير

فوزنياكي تقتنص صدارة تصنيف التنس وتتويجها بلقب أستراليا

GMT 23:29 2018 الإثنين ,22 كانون الثاني / يناير

مدارس ألمانية تعاقب التلاميذ غير المطيعين بطريقة غريبة

GMT 12:50 2018 الخميس ,04 كانون الثاني / يناير

أحمد سعد يتعاقد على أغنية فيلم "أهل الكهف"

GMT 03:55 2018 الثلاثاء ,02 كانون الثاني / يناير

"فيفا" ينتصر للنابي على حساب الإسماعيلي

GMT 10:41 2017 الثلاثاء ,17 كانون الثاني / يناير

Suits &Ties تطلق أحدث تصميمات البدل الرجالية العصرية
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib