الـوزير والـدولـة

الـوزير والـدولـة

المغرب اليوم -

الـوزير والـدولـة

محمد الساسي

عادت قضية التعذيب، في المغرب، لتطفو على سطح الأحداث في الآونة الأخيرة. جاء ذلك نتيجة تضافر مجموعة من العوامل واجتماع مجموعة من الوقائع، منها، على وجه الخصوص، صدور تقرير، في الموضوع، عن منظمة العفو الدولية وزيارة السيدة نافي بيلاي، المفوضة السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، لبلادنا، وعقدها سلسلة من اللقاءات مع المسؤولين المغاربة وإلحاحها المستمر، خلال جميع مراحل الزيارة، على ضرورة إجراء تحقيقات فورية في الإدعاءات بالتعرض للتعذيب، واستبعاد الاعترافات المتوصل إليها عن طريق العنف والإكراه. واعتبرت السيدة بيلاي، عموماً، أن على المغرب أن يحول الالتزامات التي تَعَهَّدَ بها والإصلاحات والتوجهات الإيجابية التي أعلن عن تبنيها إلى واقع ملموس.
أما تقرير أمنيستي فخلص إلى استمرار ممارسة التعذيب على المعتقلين في مخافر الشرطة، وعدم إيلاء وكلاء الملك أية أهمية لتصريحات الأفراد الذين يزعمون تعرضهم للتعذيب وإهمال فتح تحقيقات بهذا الخصوص، الأمر الذي يمنح ممارسي التعذيب نوعاً من الاطمئنان والأمان ويمتعهم بالحصانة ويشجعهم على الاستمرار في إتيان الانتهاكات، ذاتها، خاصة مع وجود أماكن احتجاز سرية، وعدم حضور المحامي أطوار البحث التمهيدي، وغياب التوثيق بالصوت والصورة لأي من تلك الأطوار، في بلد له تاريخ طويل من الاستعمال الواسع للتعذيب.
الموقف الرسمي المغربي استند إلى كون المغرب أبدى تعاوناً كبيراً مع المنتظم الدولي لطي صفحة ماضي الانتهاكات، وصادق على البروتوكول الاختياري لاتفاقية مناهضة التعذيب، وأنشأ هيئة الإنصاف والمصالحة، وسَنَّ، في دستوره الجديد، آليات جديدة لحماية حقوق الإنسان، وَوَفَّرَ لمواطنيه إمكانات ملموسة للانتصاف وضمان جبر الأضرار، وفرض على القضاة فتح تحقيق في كل الحالات التي يقوم، فيها، ما يوحي بحصول تعذيب.
واعتبر الأستاذ مصطفى الرميد، وزير العدل، أن منظمة العفو الدولية رسمت، في تقريرها، ملامح مغرب قديم وتجاهلت التطور الحقوقي الحاصل في المملكة، وعرضت وقائع وممارسات منتمية إلى الماضي، وقامت ب"تبخيس" المجهود الجماعي الذي بذله المغاربة، ملكاً وحكومة وشعبا ومجتمعا مدنياً، للقطع مع ماضي الانتهاكات. وتَأَسَّفَ الوزير لكون تقرير المنظمة، في نظره، جانب الموضوعية وبالغ في الحديث عن التجاوزات، وأبدى تخوفه من أن تُعتمد الأحكام السلبية التي تصدرها المنظمات الحقوقية الدولية كأساس لحرمان المغرب من ممارسة بعض جوانب سيادته على مناطقة الصحراوية. واتهم الرميد أمنيستي بشن حملة تشهيرية ظالمة ضد المغرب وبحشر بلادنا ضمن مجموعة من البلدان التي لم تحقق التطور الحقوقي الهائل الذي حققه المغرب. وعاب الوزير على المنظمة الدولية ما اعتبره جنوحاً عن القواعد المنهجية المعول عليها في تحرير التقارير الحقوقية، وخاصة تنكرها للمنطق الذي بُنيت عليه تقاريرها السابقة، وإهمالها القيام بتبادل المراسلات والمعطيات مع المؤسسات المغربية المختصة قبل وضع الصيغة النهائية للتقرير، واكتفاءها بإيراد روايات الذين يزعمون تعرضهم للتعذيب بدون أي مجهود للتحري والتقصي والبحث عن الأدلة والحجج. ورأى الرميد أن منطمة العفو الدولية كان عليها أن ترصد مثل هذه الحملة لبلدان لازالت تعيش سنوات الرصاص، واعتبر أن عدم إدراج هذه البلدان ضمن الحملة يعني، في نظره، تزكية الانتهاكات الجسيمة التي تقع فيها.
وأخبر السيد الوزير المنظمات الحقوقية بأنه وَجَّهَ منشوراً إلى الوكلاء العامين للملك، ووكلاء الملك، يدعوهم فيه إلى الحرص على تطبيق المقتضيات الدستورية والقانونية التي تحمي سلامة الأشخاص الموضوعين رهن الحراسة النظرية، والمبادرة، تلقائياً أو بناء على طلب المعنيين بالأمر، إلى تسجيل ما تتم معاينته من آثار عنف، في محضر رسمي، وإصدار الأمر بإجراء فحص طبي يُعهد به إلى أطباء "محايدين ومتخصصين"، والتجاوب مع طلبات إجراء الفحوص الطبية التي تُقَدَّمُ أمام قضاة التحقيق. وطلب الوزير من منظمات المجتمع المدني أن تساعد في تحقيق الهدف المتوخى من المنشور عبر تسليم قوائم أطباء،ذوي خبرة، ممن يبدون استعدادهم للمساهمة في إجراء الفحوصات على الأشخاص الذين يقولون إنهم تعرضوا للتعذيب.
ولتأكيد حسن نية الوزارة في محاربة التعذيب، أشار الوزير إلى أن مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية الجديد تنص على توثيق أطوار البحث التمهيدي بالصوت والصورة، وتسمح بحضور المحامي خلال جلسات الاستماع، من طرف الشرطة القضائية، إلى الأشخاص الموضوعين رهن الحراسة النظرية كلما تعلق الأمر بحدث أو مُصاب بعاهة، وذلك في أفق تعميم هذا الإجراء، مستقبلاً، على جميع الأشخاص.
وأعلنت وزارة العدل، رسمياً، أنها تباشر التحقيق في ست حالات زعم فيها أشخاص أنهم تعرضوا للتعذيب وثبت أن بعضهم قام باختلاق واقعة التعذيب، ولهذا تقررت متابعته بسبب الوشاية الكاذبة.
يُستنتج مما سبق أن وزارة العدل أساساً (ووزارة الاتصال إلى حد ما) عاشت، هذه الأيام، حالة استنفار حقيقي لمحاولة الرد على تُهمة التعذيب، وبذلت مجهوداً تواصلياً جباراً وغير مسبوق للدفاع عن "الدولة" ككل، ولإقناع الناس بأنها مظلومة، والدليل على ذلك هو الوشايات الكاذبة التي تَمَّ اكتشافها اليوم، وأن التعذيب إذا كان موجوداً في المغرب فهو من صنع أفراد وليس من صنع الدولة، وحالاته محدودة، وأن الدولة تتبرأ من كل موظف عمومي يمارس التعذيب ولا تُصْدِرُ له أوامر بذلك، وأن مديرية مراقبة التراب الوطني تعمل في إطار القانون وأن اتهامها بالتعذيب لا أساس له وأنها بريئة من أية أعمال تعذيب، براءة الذئب من دم يوسف، وأن هناك اقتناعًا راسخًا لدى الدولة برمتها بأن مثل هذه الأعمال لا يمكن أن تنتمي إلى مغرب الدستور الجديد.
بقي أن نتساءل : عن أية دولة يتحدث الأستاذ الرميد؟ وماذا يعني ب"الدولة"؟ وهل يُوجد الرجل في موقع يسمح له بتمثل مواقف وإرادة واختيارات الدولة، وهل يستطيع أن يكون ناطقا باسم الدولة وكفيلاً لها وملتزمًا باسمها ومعبرًا عن حقيقتها وجوهرها وناقلاً لما يمور في وجدانها؟
هل يعني ذ. الرميد ب"الدولة" تلك التي كسرت فك برلماني من حزب الوزير، نفسه، في الشارع العام، والتي اعتقلت أحد ضيوف منظمة موازية لحزبه، بدون علمه، رغم أنه وزير العدل، والتي منعت تجمعًا لرئيس الحكومة، نفسه، بطنجة، والتي اعتدت على أعضاء التجديد الطلابي وهشمت ضلوعهم، والتي أسالت دماء المحتجين على قرار العفو عن دانييل كالفان، بدون علم رئيس الحكومة، وكل ذلك جرى في مغرب الدستور الجديد والتناوب الثاني؟
هل كان بإمكان ذ. الرميد أن يستعمل سلطاته، كوزير للعدل، ليمنع وقوع ما وقع، وليمنع ممثلي الدولة، في الشارع العام، من ممارسة العنف على مرآى ومسمع من الجميع أو ليوقف حدوثه أو ليرتب عنه الإجراءات القانونية التي يفرضها الموقف ويفتح مسطرة معاقبة مقترفي هذا العنف؟ وإذا كانت مثل هذه الحالات من العنف "المرئي" صادرة، فقط،عن أفراد وليس عن الدولة، فلماذا لم تعاقبهم هذه الدولة؟ وإذا كان هؤلاء الأفراد يمارسون كل هذا القدر من العنف، علنا، وبنوع من التحدي،وبكل هذه الثقة في النفس وهذا المستوى من الشعور بالأمان، فما بالك بحالات العنف"المبطن" الذي يمكن أن يجري في الدهاليز والأقبية والزنازين والمخافر؟ وماذا تغير، في العلاقات المؤسسية وليس في الخطب والتصريحات، حتى يصبح الرميد قادراً، اليوم، على فعل ما لم يكن قادراً على فعله بالأمس؟
يمكن لوزير العدل "العادي" أن يقدم التزامًا باسم وزارته أو باسم رئاسة الحكومة، ولكنه لا يستطيع أن يقدم التزاما باسم الدولة، إذ ليس بإمكانه التأثير فيها وتوجيه قرارها وخططها واختياراتها وعقيدتها، في الشأن الأمني. لقد أكد ذ.عبد الرحمان اليوسفي أن من عوائق الإصلاح وجود ازدواجية بين "سلطة الدولة" و"سلطة الحكومة"، وذ. الرميد يتحدث من موقع سلطة الحكومة وليس من موقع سلطة الدولة. ولم يستطع دستور 2011، ولا التناوب الثاني، إنهاء تلك الازدواجية. تكفي الإشارة، هنا، إلى أن رئيس الحكومة ووزيره في العدل لا يباشران أي إشراف أو مراقبة فعلية على عمل الأجهزة الأمنية التي تعتبر امتداداً لسلطة الدولة. إنهما لا يستطيعان أن يحددا لتلك الأجهزة ما يجب أن تعمله وما يجب ألا تعمله. يمكنهما أن يستنكرا، مثلنا، حصول بعض التجاوزات وأن يعبرا عن أسفهما وأن يقدما وعودًا بعدم تكرار ما جرى ويجري، ولكنهما لا يستطيعان ضمان عدم حصول تلك التجاوزات في المستقبل.
لا شيء يثبت، اليوم، أن القرار الأمني أُدمج، فعلياً، ضمن صلاحيات الحكومة الرسمية التي يرأسها الحزب المتصدر لنتائج الانتخابات. قد يتحمل بعض الأفراد، أحياناً، مسؤولية ممارسة العنف والتعذيب، ولكن الماسكين بسلطة القرار الأمني عندما يختارون إصدار تعليمات بالضرب فإن ذلك يكون له منطقه ويكون قابلاً للتفسير السياسي؛ ففي قضية كالفان اعتُبر الاحتجاج، ربما، تطاولاً على المقدسات، وعندما يختارون إصدار تعليمات بالامتناع عن الضرب، يكون ذلك أيضاً قابلاً للتفسير السياسي (ساحة مخيم أكديم إيزيك)؛ وإذا ما اضطروا، في يوم من الأيام، إلى الإقلاع النهائي عن عادة الضرب، فلن يفعلوا ذلك نزولاً عند رغبة وزير عادي في حكومة عادية، بل قد يكون ذلك، ربما، بفعل الضغطين الدولي والشعبي، أو أشياء أخرى.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الـوزير والـدولـة الـوزير والـدولـة



GMT 12:08 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

مشعل الكويت وأملها

GMT 12:02 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

بقاء السوريين في لبنان... ومشروع الفتنة

GMT 11:53 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

“النطنطة” بين الموالاة والمعارضة !

GMT 11:48 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

نتنياهو و«حماس»... إدامة الصراع وتعميقه؟

GMT 11:41 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

فرنسا العظمى «سابقاً»

GMT 11:19 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

التصعيد والتبريد في حرب غزة!

GMT 11:16 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

خروج بني إسرائيل من مصر!

GMT 11:13 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

بيان من المحروسة

النجمة درة بإطلالة جذّابة وأنيقة تبهر جمهورها في مدينة العلا السعودية

أبوظبي ـ المغرب اليوم

GMT 19:55 2024 الأربعاء ,03 إبريل / نيسان

مولود برج الحمل كثير العطاء وفائق الذكاء

GMT 23:13 2024 الإثنين ,01 إبريل / نيسان

الوداد الرياضي يٌعلن فتح باب الانخراط بالنادي

GMT 07:57 2021 الإثنين ,27 كانون الأول / ديسمبر

الطاقة الشمسية تجمع المغرب ونيجيريا

GMT 17:42 2020 الجمعة ,01 أيار / مايو

أبرز الأحداث اليوميّة

GMT 06:29 2015 الأربعاء ,09 كانون الأول / ديسمبر

منفذة هجوم كاليفورنيا تعلمت في مدرسة دينية باكستانية

GMT 09:31 2023 الجمعة ,14 إبريل / نيسان

حليب جوز الهند يعالج البشرة الجافة

GMT 21:26 2016 الجمعة ,07 تشرين الأول / أكتوبر

دراسة جديدة عن فوائد المخدرات للمرتبطين

GMT 11:19 2014 السبت ,04 كانون الثاني / يناير

اخطاء وخطايا النخبة

GMT 06:39 2016 الأربعاء ,03 شباط / فبراير

Ralph&Russo Couture Spring/Summer 2016
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib