الانقلاب و«القطْرة» والدولة العميقة

الانقلاب.. و«القطْرة».. والدولة العميقة

المغرب اليوم -

الانقلاب و«القطْرة» والدولة العميقة

عبد الله الدامون

يوم الثلاثاء الماضي، مرت الذكرى الخامسة والثلاثون لأول انقلاب عسكري في تاريخ إسبانيا الحديثة. الانقلاب فشل، لكن آثاره بقيت واضحة حتى اليوم. ففي يوم 23 فبراير 1981 اقتحم عدد من الجنود وأفراد الحرس المدني، يقودهم العقيد أنطونيو تيخيرو، مقر البرلمان واستغلوا النقل التلفزي المباشر لجلسة تصويت وأعلنوا انقلابهم الذي تم على الهواء مباشرة. وعندما بدأ النواب يصرخون ويحتجون، أطلق الجنود أعيرة في الهواء فانبطح الجميع، وبقي رئيس الحكومة وحده جالسا على كرسيه بقامة مستقيمة ولم يختبئ تحت الكرسي. بعد ثلاثة عقود ونصف من تلك المحاولة الانقلابية، يمكن لمن يزور اليوم مقر البرلمان الإسباني أن ينظر إلى السقف، ليس للتملي بالطلعة البهية لتلك الرسوم العتيقة التي تزين المكان، بل لكي يرى الثقوب التي تركتها طلقات النار من بنادق جنود الانقلاب. لقد قرر الإسبان أن يتركوا تلك الآثار على حالها حتى تكون عظة للأجيال المقبلة لتدرك أن ثمن الديمقراطية لم يكن في يوم ما ثمنا سهلا.
ليست وحدها ثقوب الرصاص ظلت حية في ذاكرة الإسبان، بل في كل مرة تعود فيها ذكرى ما حدث تنقلب البلاد رأسا على عقب في كل شيء، في برامج التلفزيون وتحقيقات الصحافيين وكتب المؤرخين، وفي كل مرة تنكشف أشياء جديدة حول الانقلاب، حتى أن الملك السابق، خوان كارلوس، الذي كان وقت الانقلاب ملكا شابا وحديث عهد بالمُلك، لم يفلت من اتهامات التواطؤ مع الانقلابيين. إبقاء الذاكرة حية عادة إسبانية بامتياز، حتى أنهم لا يزالون يخلدون كل عام ذكرى معركة «أنوال» التي أكلوا فيها «طْريحة» تاريخية، لكن ذلك لم يعقّدهم، بل إنهم لا زالوا يحتفلون بما حدث قبل قرون حين طردوا الأندلسيين الإيبيريين ونكّلوا بهم بعد سقوط دولة الأندلس. طبعا هم لا يشبهوننا بالمرة، لأننا لا نأبه إطلاقا بذكرى معركة «أنوال»، مع أننا كنا المنتصرين، ولا بذكرى الأندلس ولا بمعركة وادي المخازن ولا بأي شيء. نحن شعب مقطوع الصلة مع الذاكرة. في المغرب حدثت عدد من المحاولات الانقلابية، لكننا نتصرف معها كما نتصرف مع ذكرى كابوس نريد أن ننساه بكل الوسائل، ولم يسبق أبدا للتلفزيون المغربي أن تجرأ يوما على تنظيم برنامج أو لقاء حول ذلك، فذاكرتنا يجب أن تُمحى بحلوها ومرّها، ولا مكان في تاريخنا للمراجعة ونقد الذات أو إصلاح ما يمكن إصلاحه. نحن نعيش فقط يوما بيوم وكأننا ولدنا بالأمس. والغريب أننا نخفي حتى ماضي البناية التي يوجد بها البرلمان الحالي بشارع محمد الخامس بالرباط، والذي كان محكمة يحاكم فيها المجرمون والأفاقون والسرّاق. ولو شئنا أن نقارن بين ذاكرة برلماننا وذاكرة برلمان جيراننا، فستكون هذه المقارنة مثيرة وغريبة. ذاكرة برلمانهم فيها التضحية والتحدي، وذاكرة برلماننا فيها رائحة اللصوصية والإجرام.
هناك مقارنة أخرى مثيرة، وهي أن الثقوب التي أحدثها الرصاص في سقف البرلمان الإسباني تسبب مشكلة حقيقية للنواب عندما يكون المطر غزيرا، حيث تتسرب الأمطار إلى داخل «القبة» ويكون على النواب أن يحتموا منها بأية وسيلة، لكنهم لم يفكروا أبدا في محو تلك الثقوب. برلماننا أيضا يُدخل القطرة، لكن ليس على النواب، بل على المغاربة كلهم، لأن الشعب يؤدي من حر ماله رواتب برلمانيين بلا أي دور ولا أي وعي ولا أي صدق ولا أي تكوين. وإذا كان البرلمان الإسباني يُدخل «القطْرة» على الجالسين فيه أيام المطر فقط، فالبرلمان المغربي يُدخل «القطْرة» على المغاربة شتاء وصيفا، خريفا وربيعا، ليلا ونهارا، ولا تنفع مع «القطْرة» مظلة ولا معطف شتوي، لأنها تدخل مباشرة إلى جيوب المغاربة حتى وهم نائمون في أسرّتهم.بعد خمس وثلاثين عاما على محاولة الانقلاب العسكري في إسبانيا، يقول المحللون إن ذلك الانقلاب كان نعمة على الشعب الإسباني، لأن فلول الدكتاتور فرانكو انكشفوا بسرعة، أي أنه بعد ست سنوات فقط على موت الجنرال فرانكو، قام الفلول بمحاولة فاقعة للاستيلاء على السلطة والقضاء على الديمقراطية الفتية، والنتيجة أن الدولة العميقة التي كان يفترض أن تعيش طويلا في إسبانيا وتتحكم في البلاد من وراء ستار صارت ضحلة جدا، وتقدمت الديمقراطية بطريقة أسرع جدا مما كان متوقعا، والملك الذي كان متهما بالتواطؤ مع الانقلابيين من أجل عودة الدكتاتورية صار يتواطأ مع الشعب لصالح البلاد. أما الدولة العميقة وفلولها فقد سكنت إلى الأبد تلك الثقوب في أعلى القبة البرلمانية مثل عناكب سوداء، صحيح أنها تُدخل «القطْرة» بين الفينة والأخرى على البرلمانيين، لكن لا يهم، فذلك أفضل من «القطْرة» الأبدية على الشعب كله.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الانقلاب و«القطْرة» والدولة العميقة الانقلاب و«القطْرة» والدولة العميقة



أجمل إطلالات نانسي عجرم المعدنية اللامعة في 2025

بيروت - المغرب اليوم
المغرب اليوم - مكالمة سرية تكشف تحذيرات ماكرون من خيانة أمريكا لأوكرانيا

GMT 02:15 2025 الجمعة ,05 كانون الأول / ديسمبر

ياسمين عبدالعزيز تفكر بالزواج مجددًا بعد طلاقها
المغرب اليوم - ياسمين عبدالعزيز تفكر بالزواج مجددًا بعد طلاقها

GMT 06:16 2025 الإثنين ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

سعر الذهب في المغرب اليوم الإثنين 03 نوفمبر/تشرين الثاني 2025

GMT 21:44 2019 الإثنين ,01 تموز / يوليو

تنتظرك تغييرات في حياتك خلال هذا الشهر

GMT 16:06 2020 الإثنين ,01 حزيران / يونيو

لا تتهوّر في اتخاذ قرار أو توقيع عقد

GMT 18:33 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة

GMT 20:18 2021 الأربعاء ,27 كانون الثاني / يناير

وفاة خالة الشقيقتين المغربيتين صفاء وهناء

GMT 14:36 2019 الإثنين ,10 حزيران / يونيو

الرئيس اللبناني ميشال عون يلتقي وفدًا أميركيًا

GMT 12:29 2019 الخميس ,30 أيار / مايو

مجلس الحكومة يعيد تنظيم مسرح محمد الخامس

GMT 05:01 2019 الأربعاء ,10 إبريل / نيسان

دافنشي كان يكتب بيديه الاثنتين بكفاءة
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
RUE MOHAMED SMIHA ETG 6 APPT 602 ANG DE TOURS CASABLANCA MOROCCO
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib