خطاب مدمر للجنسين

خطاب مدمر للجنسين

المغرب اليوم -

خطاب مدمر للجنسين

آمال موسى
د. آمال موسى

إنَّ وجود المشكل في حدّ ذاته ليس مشكلاً. ذلك أنَّ ظهور المشاكل جزء من الحياة اليومية ونتاج طبيعي للعلاقات الاجتماعية ومسارات الفعل الاجتماعي المختلفة والمتصارعة. فالمشكل يكمن حقيقة في كيفية معالجته: طريقة المعالجة هي التي تزيد في طابعه الإشكالي، وهي التي تُحدد تزايده وتفرعه إلى ما لا يُحصى من المشاكل المعقدة والمركبة.

وهكذا فإنَّه يمكن أن ننطلق من نقطة أنَّ التعثر وارتكاب الأخطاء في معالجة أي مشكل هما المشكل بالأساس.

لقد ارتأينا اعتماد هذا المدخل لتناول ظاهرة بدأت تنتشر في الخطاب الإعلامي والثقافي والاجتماعي العربي بشكل عام، ويمكن القول إنَّ تونس رائدة الخطاب الذي سنشير إليه: ينحى هذا الخطاب إلى تثمين نجاحات المرأة والاحتفال إعلامياً بكل مظاهر التفوق التي تحققها سواء في مجال التحصيل الدراسي وتفوقها على الذكور في المناظرات الوطنية أو في الحقول الفكرية والصحية والحقوقية والسياسية.

طبعاً هذه الاحتفالية هي مظهر إيجابي ودليل تقدم اجتماعي في مجال إنصاف المرأة والاعتراف بقدراتها على الفعل والخلق والتميز. كما أنَّها تعكس خطوات نوعية قطعتها الذهنية الاجتماعية في تقليص الهوة الجندرية التمايزية بين الجنسين.

إلى حدود هذه المعاني والرسائل فإنَّ كل شيء على ما يرام ويُثلج الصدر ومطمئن جداً.

بمعنى آخر فإنَّه إلى حد هذه المعاني لا يوجد إشكال. ولكن المشكل يبدأ ويحتدمُ عندما يكون الاحتفاء بنجاحات التلميذات والنساء المتميزات في الطب والعلوم والمتفوقات يقوم على استنقاص قيمة الذكور والدفاع عن فكرة أنَّ المستقبل للمرأة، وأنَّ الرجال فقدوا الريادة في التفوق. أي أنَّنا أمام خطاب يعلي من شأن المرأة على حساب الرجل. ويظهر المرأة في صورة الذي افتك النجاح من الرجل، أي أنَّنا أمام انقلاب وإطاحة المرأة بالرجل وافتكاكها سلطة النجاح والتفوق. بمعنى آخر فنحن أمام إعلاء من شأن المرأة وحط من شأن الرجل. والمشكلة الأكبر أنَّ هذا الخطاب يمارس بقوة في مجال الدراسة وفي صفوف التلاميذ والشباب، أي في مرحلة البناء الرمزي للهوية الجنسية. ومن ثم فإنَّنا فعلاً أمام خطاب مدمر للشباب والشابات من جهة، وللعلاقة بينهما مستقبلاً من جهة أخرى. أيضاً يمكن توصيف هذا الخطاب بأنَّه انتقامي يسعى إلى استبدال هيمنة ذكورية بهيمنة أنثوية من دون التفطن إلى أن المشكل في الهيمنة وليس في الجنس، وهو ما يعني أنَّ الانتقال من هيمنة إلى أخرى يحمل الضرر نفسه، ويمثل توليداً لمشكل وليس معالجة لظاهرة تاريخية جعلت من الذكور يهيمنون على الفعل الاجتماعي، ويقسمون الأدوار الاجتماعية تقسيماً تمايزياً على أساس النوع الاجتماعي.

إنَّ تبني هذا المسار المضاد للمسار الذكوري تاريخياً واعتماد خطاب ينمُّ عن نزعة تستبدل تفضيل جنس على آخر لا ينتج علاقات بين الجنسين صحية وسليمة، ولا يعكس جهداً علاجياً بقدر ما يمثل زرعاً للفخاخ والتوترات.

لذلك فإنَّ خطاب التثمين الانتقامي لنجاحات المرأة في مجتمعاتنا هو خطاب مضر بالمرأة وبالرجل في الوقت نفسه، ولا يندرج ضمن النقد الثقافي للتنشئة الاجتماعية ويفتقد إلى الوعي بأساسيات الحياة والوجود، وهو محاولة الوصول إلى بناء رمزي يوفر للجنسين معاً الإنصاف والسعادة من دون اعتداء على الطبيعة ومع نقد يهدف إلى تقويم اعوجاج للثقافة.
فما هو الحل إذن؟ كيف لا نقع في الهيمنة الأنثوية من دون أن نحرم الإناث الاحتفال بتفوقهن؟

إنَّ الحل سهل جداً: الانتقال من الهوس بالهوية الجنسية للفاعل الاجتماعي إلى تثمين القيم والسلوك والأفعال. فالخطاب الاجتماعي الصحي هو الذي يثمن أفكار النجاح والعمل، وبذل الجهد ونبذ الكسل والطموح ورفع التحدي والتفوق والتميز والتفرد. هكذا يتمُّ تجاوز الخطاب المغرق في الجندرية المنحازة والمعتلة إلى خطاب يحتفل بالأفكار الإيجابية. وهو في الحقيقة الخطاب الذي يستند إليه فكر المواطنة وفكر الأنسنة، حيث تجاوز كل التمايزات الاجتماعية على أساس الجنس.

تحتاج مجتمعاتنا العربية والإسلامية التي تعرف لحظة حضارية صعبة وحرجة إلى ذكاء الجنسين وإبداع الجنسين وعلاقات اجتماعية صحية سليمة بين الجنسين، وهي علاقات أساس البناء الأسري وأساس بناء مجتمع بأقل ما يمكن من عنف وتوتر وجريمة.

لذلك فإنَّ معالجة الثقافة الذكورية في مجتمعاتنا تكون بمحو المعيار الجنسي واستبداله بمعايير الإنجاز والفعل والتعامل مع الإنسان من دون النوع الاجتماعي، وهو ما يجعل من نجاحات المرأة نجاحات للجنسين وللمجتمع وللإنسانية.

إنَّ الاعتراف بقدرات المرأة هو اعتراف بقدرات الرجل أيضاً، لأنَّ المرأة أو الرجل هما كقدرات وعطاء نتاج البيئة الاجتماعية التي هي بدورها وليدة إنجازات الجنسين على امتداد الأجيال. وللتخلص من أوحال الخطاب الذي يعتمد الانحياز الجندري أساساً، فإنَّه لا حلَّ غير الاحتفال بالقيم الخلاقة والكاشفة عن تميز الكائن الإنساني.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

خطاب مدمر للجنسين خطاب مدمر للجنسين



GMT 19:29 2024 الأربعاء ,17 إبريل / نيسان

ما يملكه الضعفاء

GMT 19:27 2024 الثلاثاء ,16 إبريل / نيسان

في الحنين إلى صدّام

GMT 19:22 2024 الأربعاء ,17 إبريل / نيسان

منير وشاكوش وحاجز الخصوصية!

GMT 19:17 2024 الثلاثاء ,16 إبريل / نيسان

حرب أوكرانيا... واحتمال انتصار الصين!

GMT 19:11 2024 الأربعاء ,17 إبريل / نيسان

إيران أكبر عدو لنفسها

بلقيس بإطلالة جديدة جذّابة تجمع بين البساطة والفخامة

القاهرة ـ المغرب اليوم

GMT 08:24 2024 الخميس ,18 إبريل / نيسان

نصائح لاختيار العطر المثالي لمنزلكِ
المغرب اليوم - نصائح لاختيار العطر المثالي لمنزلكِ

GMT 17:54 2023 الأربعاء ,14 حزيران / يونيو

مبابي يدافع عن ميسي وينتقد جماهير باريس

GMT 20:13 2021 السبت ,18 أيلول / سبتمبر

دلالات اللون الأخضر في ديكور المطابخ

GMT 16:56 2019 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

الرجاء البيضاوي يحدد سعر خروج محمود بنحليب من الفريق

GMT 09:33 2019 الخميس ,31 تشرين الأول / أكتوبر

رجل يقطع إصبعه بسبب لدغة أفعى غير سامة

GMT 16:07 2017 الإثنين ,29 أيار / مايو

طريقة تحضير تارت الكنافة بالمانجو اللذيذ

GMT 06:15 2024 الأربعاء ,31 كانون الثاني / يناير

الجزائر تتراجع قرار منع الاستيراد والتصدير عبر موانئ المغرب

GMT 17:43 2023 الجمعة ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

الذهب يسجل ارتفاعاً بدعم من استقرار مؤشر الدولار الأميركي
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib