عن نظريّات التغيير السائدة

... عن نظريّات التغيير السائدة

المغرب اليوم -

 عن نظريّات التغيير السائدة

حازم صاغية
بقلم - حازم صاغية

في منطقتنا، وفي العقود القليلة الماضية، سادت نظريّتان للتغيير. واحدة تقول: دعوا السلطة السياسيّة جانباً وركّزوا على تغيير المجتمع تنويراً ووعياً عقلانيّاً وعلمانيّاً حديثاً. ذاك أنّ تغيير المجتمع وقيمه لا بدّ أن ينعكس، في آخر المطاف، على سلطته السياسيّة. أمّا النظريّة الثانية فتقول: دعوا جانباً المجتمع، بثقافته وتعليمه وممارساته الدينيّة، وركّزوا على السلطة السياسيّة. ذاك أنّ تغيير السلطة لا بدّ أن ينعكس على المجتمع في النهاية.
النظريّتان لم تتصالحا، بل لم تتقاطعا إلاّ لماماً، مع هذا جمع بينهما خروجهما عن الروايات الإيديولوجيّة لزمن الحرب الباردة، حيث الأولويّة للاشتراكيّة أو لتحرير فلسطين أو لبناء وحدة قوميّة ما. لكنّ تجاهلاً آخر جمع بينهما طال التكوينات الاجتماعيّة التي تقوم عليها مجتمعاتنا (طوائف، إثنيّات...)، مع ما يحمله ذلك التجاهل من آثار سيّئة: الإعاقة لبلورة المدى الوطنيّ ولمبدأ امتلاك الشعب الفضاء العام، ومن ثمّ ضعف التركيز على بناء الروابط الوطنيّة والدستوريّة التي يؤمَل أن تحلّ محلّ الطائفة والمذهب والإثنيّة.
اليوم، على أيّ حال، تحصد النظريّتان فشلاً ذريعاً، أو فشلين ذريعين.
فالتركيز النقديّ على تغيير المجتمع وثقافته ينتهي راهناً إلى حصائل رهيبة: مزيد من تراجع الوعي العامّ نحو أشكال أكثر بدائيّة، ونحو مزيد من تراجع تيّارات التقدّم والتنوير، وتعاظُم تأويل الدين على نحو حَرْفيّ جامد. أسوأ من هذا أنّ معظم القائلين بالاقتصار على إسقاط النظام الثقافيّ والأخلاقيّ ينتهون متحالفين مع النظام السياسيّ أو متواطئين معه، وهذا فضلاً عن إغفالهم دور ذاك النظام إيّاه في توليد نظام القيم وفي رعايته.
والحال أنّ الإبقاء على قديمنا السياسيّ لن يفعل سوى تأجيل انفجار يأتي بعد حين، بدلالة الانفجار الذي سبق أن حصل في ظلّ هذا القديم، كما أنّ تأثير النظام العسكريّ - الأمنيّ على جبهة القيم والأفكار سيكون مزيداً من التبلّد والتكلّس.
في المقابل، يتغافل أصحاب التركيز النقديّ على التغيير السياسيّ وحده عن أنّنا، في العشرين سنة الماضية، شهدنا سقوط صدّام حسين ومعمّر القذّافي وحسني مبارك وعلي عبد الله صالح وزين العابدين بن علي وعمر البشير وعبد العزيز بوتفليقة، لكنّ بلدانهم لم تستقرّ على أوضاع تجمع بين الاستقرار والحرّيّة وشيء من الازدهار، فإمّا حروب أهليّة وأمراء حرب أو سلطات أمنيّة وعسكريّة وحكّام معصومون.
وبالمقارنة مع أحداث تعود إلى أواسط السبعينات، نلاحظ أنّ موت الجنرال فرانكو وإزاحة كايتانو، وريث سالازار، وإطاحة الطغمة العسكريّة في أثينا كانت كافية لنقل إسبانيا والبرتغال واليونان إلى الديمقراطيّة. لقد بدا في تلك البلدان أنّ المجتمعات باتت مهيّأة لتقبّل التغيير، ولم يعد مطلوباً سوى موت الحاكم أو إزاحة العائق السياسيّ من الطريق. عندنا، لم ينضج مثل هذا الاستعداد إلاّ في بيئات ضيّقة.
لا يعني الكلام هذا أنّ إطاحة الأنظمة التي أطيحت كانت خطأ، سيّما وأنّها أثبتت جدارتها في تحويل الأزمات إلى كوارث.
ما يعنيه، في المقابل، أنّ التغيير السياسيّ يبقى شرطاً ضروريّاً إنّما غير كافٍ، تماماً كما أنّ التغيير الثقافيّ والقِيَميّ شرط ضروريّ إنّما غير كافٍ أيضاً. فأجندة التغيير لا بدّ أن تكون أشمل ممّا كانت عليه وأغنى، سيّما وأنّ النظامين السياسيّ والثقافيّ - المجتمعيّ شريكان، بالتكافل والتضامن، بالاتّفاق وبالاختلاف، في إنتاج الحال الشنيعة التي وصلنا إليها. وها نحن نرى بالتجريب أنّ الاكتفاء بمقارعة نظام ما، أو بتحدّي وعي ما، لا يضمن أيّ تحوّل واعد، بل قد يؤدّي إلى أوضاع أسوأ من التي أنشأتها تلك الأنظمة ومعها منظومات الوعي القديم.
أغلب الظنّ أنّ مخيّلة العقل التغييريّ سوف تواجه، عاجلاً أم آجلاً، مهمّة التركيب بين هذين البُعدين. فالنتيجة السوداء التي تصفعنا اليوم، في العالم العربيّ، تستدعي التفكير بطرق أخرى.
وقد يقال أنّ الطريق صعب وطويل أمام تبلور أجندة كهذه وتحوّلها حركاتٍ شعبيّة فاعلة، وهذا صحيح. ففضلاً عن صعوبة المهمّة نفسها، تنضاف عناصر أخرى يتصدّرها أربعة على الأقلّ: - فالوضع الراهن لا يزال يلملم جراحه بنتيجة ما حلّ في العقدين الماضيين وما أفضت إليه هزيمة الثورات،
- والمدن، وآخرها الخرطوم، يستولي عليها الخراب فيما الطبقات الوسطى تنهار ويتنامى الفقر ويتعاظم اللجوء،
- والشرطان الإقليميّ والدوليّ غير مشجّعين بتاتاً،
- وأخيراً، لا يزال يُبدّد جزء من الطاقة التغييريّة في معارك لا معنى لها حول «الماضي الإمبرياليّ» وأشباهه.
نعم، الطريق صعبة وشائكة وطويلة، لكنّها الطريق الوحيدة إلى غد لائق!

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

 عن نظريّات التغيير السائدة  عن نظريّات التغيير السائدة



GMT 14:47 2024 الثلاثاء ,30 إبريل / نيسان

سعيٌ للتهويد في عيد الفصح اليهودي

GMT 20:01 2024 الأحد ,28 إبريل / نيسان

معايير عمل البلدية

GMT 19:56 2024 الأحد ,28 إبريل / نيسان

اتصالٌ من د. خاطر!

GMT 19:54 2024 الأحد ,28 إبريل / نيسان

شاهد على مصر والقضية الفلسطينية (7)

أجمل إطلالات الإعلامية الأنيقة ريا أبي راشد سفيرة دار "Bulgari" العريقة

أبوظبي ـ المغرب اليوم

GMT 13:42 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

نجمات عربيات تألقن على السجادة الحمراء في "كان"
المغرب اليوم - نجمات عربيات تألقن على السجادة الحمراء في

GMT 19:55 2024 الأربعاء ,03 إبريل / نيسان

مولود برج الحمل كثير العطاء وفائق الذكاء

GMT 08:33 2024 السبت ,04 أيار / مايو

إطلاق نار على رجل أعمال كندي في مصر
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib