هلوسات بصدد «كورونا»

هلوسات بصدد «كورونا»...

المغرب اليوم -

هلوسات بصدد «كورونا»

بقلم -حازم صاغية

تنظر في الصور التي تنقلها محطّات ومنصّات إعلامية لساحات المدن الخالية، فتُضطرّ أحياناً أن تقرأ التعريف بالصورة كي تتأكّد من أنّ «تايمز سكوير» أو «بيكاديللي سيركوس» هما فعلاً «تايمز سكوير» و«بيكاديللي سيركوس». أمكنة يعرفها واحدنا جيّداً، أو على الأقلّ يعرف صورها جيداً. إلا أنّها تغدو، من دون بشرها وازدحامهم، غير قابلة للتعرّف إليها.
ذاك أنّ نزع البشر عن المكان، وهو ما تفعله الحروب بطاقة تدميريّة أقوى كثيراً، يحرم المكان أن يكون نفسه، أي يردّه إلى بطاقة بريديّة لا حياة فيها سوى الوحشة.
شعور كهذا يزيده قوّة أن يسير واحدنا في شوارع مدينته المغلقة. هنا يأتيك إحساس جارف بالتساوي بين الصباح والمساء، وبين الليل والنهار، وبين الريف والمدينة. وقد يتراءى لك أنّ هذا الشارع الذي تسير وحدك فيه هو مُلك لك وحدك، إلاّ أنّ إحساساً ملازماً ينتابك من أنّك لا تملك شيئاً، أو أنّ هذا الذي تتوهّم امتلاكه ملكيّة مهجورة لا يريدها أحد. فقط القطط الجائعة، بسبب إغلاق المطاعم التي كانت تُطعمها فضلاتها، هي التي تحتلّ المكان.
هذا التساوي بين الأمكنة يتعدّى البلد الواحد إلى العالم كلّه، وهو ما أجاز للبعض استخدام تعبير «الحرب العالميّة» في وصف «كورونا» ومفاعيلها. لكنّه أيضاً، وإلى حدّ بعيد، تساوٍ بين الأزمنة، أو بكلام أدقّ، بين فسحات الوقت، حيث الاثنين كالثلاثاء، والثلاثاء كالأربعاء، والصباح كأي صباح آخر والمساء كذلك.
لهذا لا يملك المرء إلاّ أن يضحك حين يواجهه السؤال الذي يحمله إليه التليفون أو الإيميل: ما أخبارك؟ ذاك أنّ الأحداث، التي تصبح أخباراً، لا تحدث في ظلّ هذا التساوي الشامل بين أشيائنا وما يحيط بنا ونحيط به. هناك ثلاثة أو أربع وظائف نزاولها جميعاً، ولا نختلف بعضنا عن بعض في مزاولتها إلاّ في التفصيل المُملّ، كأنْ يمشي واحدنا قليلاً حول بيته صباحاً فيما يمشي غيره في المساء، أو كأنْ يسبّق واحدنا وظيفة الطبخ على الغسل، أو للبعض القراءة على الكتابة، أو العكس.
كلّ شيء إذن يتماثل مع كلّ شيء، وكلّ واحد مع كلّ واحد، فيما الخبر الكوروني الأوحد يهيمن على نهارنا منذ أن نفيق صباحاً: كم عدد الإصابات؟ كم عدد الوفيّات؟ ماذا عن إيطاليا؟ عن بريطانيا؟ عنّا نحن؟
أمّا بعض الذين درسوا التوتاليتاريّة فوجدوا أنّها تسيّس كلّ شيء، وتجعل الجميع واحداً، وتسيّج الحياة حول قضيّة وحيدة يُعبّأ الكلّ باسمها، وتتحكّم بهم كلّهم، فقد يعثرون في أفاعيل «كورونا» على ما يشبه أفاعيل التوتاليتاريّة، خصوصاً أنّ الاثنتين تنزعان من الناس أغلى ما يملكونه: الحرّيّة، وتُقفلان البيت عليهم.
وإذ يحتقن العنف المكبوت، وتتكاثر أجهزة «الرفاق» المتنافسة، تجعل «كورونا» يد المرء خصماً له، أو طرفاً مشتبهاً به ينبغي رصد حركاته وسكناته. ذاك أنّ اليد قد تضلّ طريقها في اللمس فتخون صاحبها وتعود عليه بالعدوى، وفي داخل البيت يحتدم النزاع على المساحة المتوفّرة وعلى العطس والسعال، ويحتكم الأقوى جسديّاً إلى العنف المنزلي ضدّ «شريكته» الضحيّة.
وبدوره، فالكلام يفقد في الحالتين الكثير من معناه. فلنتأمّل مثلاً كلمة غالباً ما يقولها الواحد منّا للآخر: «اشتقنا». هذا الشعور بالشوق قد يكون صادقاً تماماً، لا سيّما في ظلّ «التباعد الاجتماعيّ» لـ«كورونا». مع ذلك، فالتعبير غير قابل للتحقّق، وقائلوه غير راغبين في تحقيقه فعليّاً، نظراً لاحتمالاته الضارّة المعروفة.
وكان شيزلو ميلوش، الشاعر والروائي البولنديّ، قد ترك لنا كتاباً رائعاً سماه «العقل الأسير» عن تحوير الكلام وتزييفه في ظلّ الشيوعيّة البولنديّة. فهو استعار من الأرستوقراطي والمنظّر العنصري الفرنسي دو غوبينو، نظريّته في «الكتمان»، كما لمسها كرحّالة ودبلوماسي عاش في بلاد فارس بين 1861 و1863. ذاك أنّ الذين استدخلوا الكتمان يمكنهم العيش وسط تناقضات تحملهم على قول الشيء ونقيضه، والتكيّف مع أهواء حكّامهم والاعتقاد أنّهم يحتفظون باستقلاليّة الأحرار، أو أنّهم، في أحسن الأحوال، أحرار قرّروا أن يضحّوا بحريّتهم طوعاً. وهذا الكتمان يوفّر لصاحبه الراحة والاطمئنان، كما يؤمّن سوراً لتأمّلاته الرغبوية. وبسبب الكتمان، يعيش المواطنون على مستوى داخلي وآخر خارجيّ، مستوى مكتوم وآخر معلن. يترافق هذا مع تغيير عميق يطال طبيعة المشهد والمدينة والمهنة، ممّا ينبغي التكيّف معه وإلاّ كانت العاقبة لا تُطاق.
وهناك أدبيّات كثيرة عن اللغة التي لا تعني ما تقوله، من «الكلام الجديد» لجورج أورويل إلى «كما لو أنّ» في وصف ليزا ويدين لـ«سوريّا الأسد»، حيث المهمّ ليس ما يقال، بل ما يُراد قوله. لكنّ المشكلة الأخرى أن نتطبّع مع كلامنا هذا، بل مع حياتنا الكورونية أو البيتية هذه، فيستبدّ بنا خوف «العودة إلى الحياة» حين تغدو الحياة متاحة، وهذا أيضاً ما عصف ببعض الذين سقطت أنظمتهم التوتاليتاريّة، فاستولى عليهم خوف التغيّر والخروج إلى العالم. إلاّ أنّ انهيار الأنظمة ترك بلداناً بكاملها أقرب إلى القاع الصفصف، وهذا أيضاً ما يُخشى أن تخلّفه «كورونا» بعد انقضائها.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

هلوسات بصدد «كورونا» هلوسات بصدد «كورونا»



GMT 22:29 2024 الإثنين ,15 إبريل / نيسان

تعوّذ

GMT 22:26 2024 الإثنين ,15 إبريل / نيسان

مواقع التواصل وتجارة الوهم

GMT 22:22 2024 الإثنين ,15 إبريل / نيسان

ردت إيران… لكنّ الثمن تدفعه غزّة

GMT 22:15 2024 الإثنين ,15 إبريل / نيسان

وتُقَدِّرونَ فتضحك الأَقدارُ... إيران وإسرائيل

GMT 22:10 2024 الإثنين ,15 إبريل / نيسان

حطب إيران

نوال الزغبي تستعرض أناقتها بإطلالات ساحرة

بيروت - المغرب اليوم

GMT 09:51 2024 الثلاثاء ,16 إبريل / نيسان

ألوان الطبيعة أبرز اتجاهات الديكور هذا الربيع
المغرب اليوم - ألوان الطبيعة أبرز اتجاهات الديكور هذا الربيع

GMT 20:45 2019 الجمعة ,06 أيلول / سبتمبر

تتحدى من يشكك فيك وتذهب بعيداً في إنجازاتك

GMT 07:29 2023 الأحد ,22 تشرين الأول / أكتوبر

إتيكيت لبس الأساور للفتيات

GMT 07:12 2023 الثلاثاء ,09 أيار / مايو

توقعات الأبراج اليوم الثلاثاء 9 مايو/ أيار 2023

GMT 08:48 2024 الأربعاء ,20 آذار/ مارس

440 مليون دولار خسائر متداولي «بيتكوين»
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib