انقلاب ضدّ الثورة ثورة ضدّ الانقلاب

انقلاب ضدّ الثورة... ثورة ضدّ الانقلاب

المغرب اليوم -

انقلاب ضدّ الثورة ثورة ضدّ الانقلاب

حازم صاغية
بقلم - حازم صاغية

- الثورة التي تُنزل المواطنين إلى الشارع فيغدو الفضاء العامّ لهم ولصوتهم، كما يمارسون أشكالاً عفويّة من الديمقراطيّة قبل أن تتجسّد الأخيرة في مؤسّسات منتخبة،

- والانقلاب الذي يُرجعهم إلى بيوتهم، وفي غضون ذلك يقتل من يقتل ويسجن من يسجن، ويقيم نظاماً مغلقاً هو عكس النظام المفتوح الذي وعدت به الثورة.

هذا الانشطار الثنائيّ ربّما لم يعرفه بلد بالقدر الذي عرفه السودان: الموطنون ضدّ العسكر والعسكر ضدّ المواطنين. وبدورهم فالمواطنون، صانعو الثورات، كانوا دائماً متنوّعين ومتعدّدين يطالبون بالحرّيّات والحقوق والخبز، أمّا العسكريّون فليس مهمّاً غطاؤهم الإيديولوجيّ، ناصريّاً كان أم شيوعيّاً أم إسلاميّاً. المهمّ أنّهم يقمعون الحرّيّات والحقوق والخبز ويصادرون المجتمع بعد تأميمهم السياسة. وهم، كزملائهم في المشرق العربيّ، يقدّمون أنفسهم بوصفهم رأس حربة الحداثة والتقدّم، لكنّهم على عكسهم يعجزون عن احتلال «الأبد» وإغلاق التاريخ. في 1964 عرفت البلاد ثورتها الأولى ضدّ حكم الفريق ابراهيم عبّود. تلك الثورة الشعبيّة التي عدّها البعض الأولى في العالم العربيّ، كما في أفريقيا، عبّرت عنها أعمال غنائيّة وفنّيّة حفرتها في الذاكرة الوطنيّة للسودانيّين كما لو أنّها استقلال ثانٍ.

لقد أسميت «الثورة المجيدة»، ربّما تيمّناً بـ»الثورة المجيدة» في إنكلترا العام 1688، والتي امتدحها «أب الليبراليّة» جون لوك، بسبب توسيعها سلطات البرلمان، وتعزيزها موقعه في صناعة القرار، بعد إزاحتها الملك جيمس الثاني. أمّا شرارة الثورة فانطلقت من جامعة الخرطوم، إلاّ أنّ رافعتها سريعاً ما صارت جبهة عريضة تضمّ، فضلاً عن الطلبة، الأحزاب السياسيّة ونقابات المحامين والأطبّاء والمدرّسين والقضاة والعمّال والموظّفين والمهنيّين وممثّلي المناطق ومنظّمات المجتمع المدنيّ واتّحادات المرأة والشبيبة...

وفي 1969 انتهت التجربة بانقلاب المشير جعفر نميري على رأس ضبّاط ناصريّين وشيوعيّين، ثمّ كانت الثورة الثانية على الانقلاب في 1985، والتي وفّر شرارتَها إعلانُ نظام نميري حالة طوارىء ردّاً على تظاهرات شعبيّة تحتجّ على ارتفاع الأسعار، وذلك في مناخ احتدام الحرب في الجنوب. هكذا شهد العام 1986 عودة الانتخابات العامّة والحياة الحزبيّة التي عُطّلت طوال 17 سنة.

والحال أنّ النظام البرلمانيّ، الذي شكّل «حزب الأمّة» والصادق المهديّ عموده الفقريّ، شابتْه تشوّهات وافتقارات كثيرة بعضها ناتج عن ضعف التقاليد الديمقراطيّة. إلاّ أنّ العسكر توسّلوا الإخفاقات ليطيحوا الديمقراطيّة نفسها. هكذا كان انقلاب المشير عمر البشير في 1989 على رأس ضبّاط إسلاميّين، بحيث حُلّت الأحزاب مجدّداً وعُطّلت الحياة السياسيّة.

وفي 2019 كانت الثورة الثالثة ضدّ نظام البشير، وهي تلت انتفاضتين، في 2013 ردّاً على ارتفاع الأسعار، وفي 2016، في ما عُرف بإضراب الأطبّاء. هذه الثورة، التي توّجت تحرّكات شعبيّة عريضة، انتهت بإطاحة البشير ونظامه والإعلان عن تشكيل مجلس عسكريّ انتقاليّ.

وبعد أشهر كانت ثورة أخرى هدفها تحرير السياسة من يد العسكر لتنتهي بتوقيع ما عُرف بـ «الوثيقة الدستوريّة» ومن بعدها «الاتّفاق الإطاريّ». أمّا الانقلاب على هذا الأخير فاتّخذ شكل التنصّل وعدم التنفيذ إلى أن انفجرت حرب الجيشين فوق رؤوس السودانيّين.

ويتبدّى، إذ تتلاحق الثورات الشعبيّة والانقلابات العسكريّة على هذا النحو، وبهذا الإيقاع، كم أنّ أوضاع السودان محتدمة ومأزومة، ولكنْ يتبيّن أيضاً مدى إصرار المؤسّسة العسكريّة، جيلاً بعد جيل، على منع المدنيّين من أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم متذرّعةً بحجج شتّى. فالفساد الذي غالباً ما يقول العسكريّون إنّهم جاؤوا إلى السلطة لمكافحته، لا يلبث أن يتضاعف، على أيديهم، بنُسب فلكيّة. ولئن كان عجز الأنظمة التي أقامتها الثورات عن إنهاء الحرب في الجنوب من أبرز أسباب إضعافها وإسقاطها، فإنّ انتهاء تلك الحرب في 2011 لم يوقف الدورة الجهنّميّة إيّاها. وهذا بينما لا يُفهم تمسّك العسكريّين السودانيّين بالسلطة، كائناً من كان الضابط الطامح وكائنة ما كانت إيديولوجياه، بمعزل عن ميراث الحروب العدوانيّة منذ الحرب على الجنوب التي بدأت في الخمسينات إلى الحرب على الدارفوريّين ابتداء بـ 2003، فضلاً عن الحرب مع تشاد في 2005. والحروب كثيراً ما تعزّز في الجيوش التي تخوضها نزعات شنّ الحرب على شعبها وإخضاعها مثلما يتمّ إخضاع العدوّ الأجنبيّ.

وعلى هذا النحو قُسّم التاريخ السودانيّ الحديث إلى 56 سنة من حكم عسكريّ مقابل 11 سنة من حكم مدنيّ. والفارق بين الرقمين بليغ في تحديده أحجام المسؤوليّة عمّا آلت إليه أوضاع السودان فقراً واحتراباً.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

انقلاب ضدّ الثورة ثورة ضدّ الانقلاب انقلاب ضدّ الثورة ثورة ضدّ الانقلاب



GMT 14:47 2024 الثلاثاء ,30 إبريل / نيسان

سعيٌ للتهويد في عيد الفصح اليهودي

GMT 20:01 2024 الأحد ,28 إبريل / نيسان

معايير عمل البلدية

GMT 19:56 2024 الأحد ,28 إبريل / نيسان

اتصالٌ من د. خاطر!

GMT 19:54 2024 الأحد ,28 إبريل / نيسان

شاهد على مصر والقضية الفلسطينية (7)

أجمل إطلالات الإعلامية الأنيقة ريا أبي راشد سفيرة دار "Bulgari" العريقة

أبوظبي ـ المغرب اليوم

GMT 13:42 2024 الثلاثاء ,14 أيار / مايو

نجمات عربيات تألقن على السجادة الحمراء في "كان"
المغرب اليوم - نجمات عربيات تألقن على السجادة الحمراء في

GMT 06:51 2024 الإثنين ,22 إبريل / نيسان

أفضل أنواع الستائر الصيفية لإبعاد حرارة الشمس

GMT 18:02 2020 الجمعة ,01 أيار / مايو

أبرز الأحداث اليوميّة

GMT 12:54 2024 الأربعاء ,24 إبريل / نيسان

النوم الجيد يطيل حياة الإنسان ويضيف سنوات لعمره

GMT 11:39 2021 الأربعاء ,05 أيار / مايو

أمن مدينة الجديدة يشارك في حملة التبرع بالدم

GMT 03:23 2019 الأربعاء ,20 آذار/ مارس

حل غير متوقع لمنع الطيور من النقر على النافذة

GMT 23:32 2016 الجمعة ,12 آب / أغسطس

ماهي فوائد السبانخ

GMT 20:35 2019 الجمعة ,25 تشرين الأول / أكتوبر

كيف تساعد ابنك على اكتشاف موهبته؟
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib