أحزاب الهبوط إلى الهاوية وأحزاب الصعود إلى الجحيم

أحزاب الهبوط إلى الهاوية وأحزاب الصعود إلى... الجحيم

المغرب اليوم -

أحزاب الهبوط إلى الهاوية وأحزاب الصعود إلى الجحيم

حازم صاغية
بقلم : حازم صاغية

لا تخطئ العين التقاط فارق هائل، يتكرّر ظهوره بلا توقّف، بين مشهدين: من جهة، ما تنقله صورة الاحتفالات التي تقيمها أحزاب مسمّاة عقائديّة أو علمانيّة تستعيد ذكرى ما، أو تكرّم مؤسّساً أو قائداً ما. ومن جهة أخرى، ما تحمله صورة الاحتفالات أو التجمّعات التي تدعو إليها أحزاب تعبّر عن دين أو طائفة أو إثنيّة بعينها، تكريماً لمناسبة تتّصل بالجماعة، أو لقياديّ من قادتها أو قتيل من قتلاها.

في الصورة الأولى نقع على عدد قليل من الأفراد تستوعبهم قاعة واحدة، وغالباً ما يبدون مبعثرين فيها، ينتمون في أكثريّتهم الساحقة إلى أعمار تتجاوز الستين.

في الصورة الثانية يطالعنا عدد ضخم، تقرّر المناسبة ومدى الحشد الذي تستدعيه ضخامتها. والأهمّ أنّ الجمهور هنا شابّ في أغلبيّته الساحقة، بحيث لا يُترك للمسنّين سوى صفّين أماميّين في قاعات الاحتفال المكتظّة أو ملاعبه وساحاته. فوق هذا يبدو الحضور النسائيّ في هذه الأحزاب الأخيرة، وعلى رغم أنّ بعضها يضنّ على النساء بمواقع قياديّة، أكثر كثيراً منه في أحزاب الصورة الأولى التي تدعو إلى «تحرير المرأة».

تقول لنا هاتان الصورتان، فضلاً عمّا نعرفه أو نتوقّعه، وعمّا يرشح، بين فينة وأخرى، من أرقام ومعلومات، إنّ الأحزاب الموصوفة بالعقائديّة (قوميّة، يساريّة، علمانيّة إلخ.) تواجه تحدّي النهاية وبؤس المصير. أمّا الكلام الذي تردّده فليس من أثر فيه للزمن، أو للأحداث التي تشكّل مضامين الزمن. فهو بارد وأقرب إلى كليشيهات تكراريّة رُدّدت ألف مرّة في ألف ظرف سابق. وقد يقول قائل إنّ أحزاب الهويّات تبثّ كلاماً أكثر قدماً وعتقاً لكنّ هذا لا يعيق نموّها وتوسّعها. وهو اعتراض صحيح، إلاّ أنّ ما يُضعف صحّته كون أحزاب الهويّة لا تحتاج إلى أيّ قول يتعدّى إعلانها أنّها أحزاب هويّة. فهي تنظيمات تلقائيّة أو آليّة تستمدّ دورها وقوّتها من الجماعة التي تنتمي إليها وتعبّر، أو تزعم أنّها تعبّر، عن مصالحها.

لهذا تضعف الأحزاب العقائديّة من جرّاء تراجع القراءة، بغضّ النظر عن نوعيّة المادّة المقروءة، إذ الكتاب والجريدة هما، في حالتها، من أبرز أدوات التعريف بالحزب واستقطاب المحازبين. وهذا بينما تحتلّ القراءة في حالة أحزاب الهويّة موقعاً لا يكاد يُذكر، فيما المادّة المقروءة تنتسب في أكثرها إلى ما يعتبره الهويّاتيّون تراثاً لهم. فالقراءة، هنا، أقرب إلى الصلاة التي يعاود المؤمن سماعها رغم أنّه يحفظ كلماتها عن ظهر قلب. ولربّما جاز الظنّ أنّ هذه الأخيرة تستعيض بوسائل التواصل الاجتماعيّ عمّا تسمّيه الأحزاب العقائديّة مادّة تثقيفيّة.

والراهن أنّ الأحزاب العقائديّة تعاني الضمور الذي يقارب الاندثار بفعل الزمن وما يسجّله من احتدام الهويّات، وهو بالضبط ما يشكّل الحالة المثلى لأحزاب الهويّة غير المعدّة أصلاً لتحوّلات الزمن وقضاياه. فالكون والتاريخ، في عرفها، طائفيّان أو إثنيّان فحسب، ما يجعل الزمن والتحوّلات لزوم ما لا يلزم.

والحال أنّ مشكلة الحزبيّة، بالمعنى الحديث للكلمة، لا تقتصر على منطقتنا. فالمجتمعات الغربيّة المتقدّمة تعاني هي أيضاً ضموراً في الانتساب إلى الأحزاب مقابل التوسّع الذي تحصده التجمّعات الشعبويّة على أنواعها. وقد يُردّ هذا التطوّر إلى انتكاس الحداثة والتنوير، من غير أن ينوب هذا التعيين الفضفاض عن تحديد مسؤوليّة تلك الأحزاب عن أزمتها. لكنْ في الحالات كافّة لم يتبقّ من وسائل كبح الصعود الصارخ للشعبويّات الهويّاتيّة سوى الامتناع عن الائتلاف معها لتشكيل أكثريّات حاكمة. بيد أنّ النجاح هنا لا يبدو مضموناً، خصوصاً أنّ تلك المقاطعة انكسرت في بلد كفنلندا، وقد تنكسر في سواها.

يبقى أنّ تراجع الحزبية في المشرق العربيّ وتراجعها في الغرب تجمع بينهما قواسم مشتركة، كما تميّز بعض الاختلافات واحدهما عن الآخر. فإذا كانت النخبويّة الفائضة والابتعاد عن هموم فعليّة للسكّان وتضخّم الهجرات وتفريع الصناعة أبرز الهدايا التي قدّمتها الأحزاب البرلمانيّة للأحزاب الشعبويّة في الغرب، فالهدايا عندنا تتمثّل في الالتحاق بحركات الهويّة، خصوصاً منها أحزاب الإسلام السياسيّ. ذاك أنّ حجّة «التحرّر الوطنيّ ومكافحة الصهيونيّة والإمبرياليّة» جعلت قوى قوميّة ويساريّة مجرّد ملحقات بالأحزاب المذكورة. فالشيوعيّون اللبنانيّون، مثلاً لا حصراً، لا يزالون ينفون عن «حزب الله» ومتفرّعاته قتل شيوعيّين، مثقّفين وغير مثقّفين. والالتحاق هذا أقام في جينات الأحزاب منذ حلّ الشيوعيّون المصريّون أنفسهم نزولاً عند طلب عبد الناصر، ثمّ انضوى رفاقهم السوريّون والعراقيّون في «الجبهات الوطنيّة والتقدّميّة» للبعثيّين. أمّا في حالات القمع الصريح، كما حصل في عراق صدّام، فتبقى قابليّة الأحزاب للاندثار، أو ما يقاربه، أعلى بلا قياس من قابليّة الطوائف والإثنيّات.

وبدوره يلوح الغزل بإيران الخمينيّة، التي ارتكبت الفظائع بالشيوعيّين والقوميّين والوطنيّين الإيرانيّين، فيما كانت «تتصدّى للإمبرياليّة والصهيونيّة»، نقطة الذروة في تطبيق النهج هذا.

أمّا في بلد آخر هو لبنان فجهدت تلك الأحزاب (المتمتّعة بحرّيّة العمل وغير المقموعة أو المدعوّة للذوبان في أيّة جبهة)، في مكافحة «نظام طائفيّ» لم تفعل إطاحته سوى جعل الطائفيّة تنتشر انتشار الهواء.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

أحزاب الهبوط إلى الهاوية وأحزاب الصعود إلى الجحيم أحزاب الهبوط إلى الهاوية وأحزاب الصعود إلى الجحيم



GMT 11:09 2025 الجمعة ,05 كانون الأول / ديسمبر

المفاوض الصلب

GMT 11:06 2025 الجمعة ,05 كانون الأول / ديسمبر

فعلًا “مين الحمار..”؟!

GMT 11:05 2025 الجمعة ,05 كانون الأول / ديسمبر

مستقبل سوريا بين إسرائيل… وأميركا وتركيا

GMT 11:04 2025 الجمعة ,05 كانون الأول / ديسمبر

خطورة ترامب على أوروبا

GMT 11:02 2025 الجمعة ,05 كانون الأول / ديسمبر

تركيز إسرائيل على طبطبائي… لم يكن صدفة

GMT 11:00 2025 الجمعة ,05 كانون الأول / ديسمبر

إعلان الصُّخير... مِن «دار سَمْحين الوِجِيه الكِرامِ»

GMT 10:58 2025 الجمعة ,05 كانون الأول / ديسمبر

اصنعوا المال لا الحرب

GMT 10:57 2025 الجمعة ,05 كانون الأول / ديسمبر

توسعة الميكانيزم... هل تجنّب لبنان التصعيد؟

أجمل إطلالات نانسي عجرم المعدنية اللامعة في 2025

بيروت - المغرب اليوم

GMT 02:31 2025 الجمعة ,05 كانون الأول / ديسمبر

دراسة جديدة تكشف العلاقة بين الحب والسمنة
المغرب اليوم - دراسة جديدة تكشف العلاقة بين الحب والسمنة

GMT 06:16 2025 الإثنين ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

سعر الذهب في المغرب اليوم الإثنين 03 نوفمبر/تشرين الثاني 2025

GMT 21:44 2019 الإثنين ,01 تموز / يوليو

تنتظرك تغييرات في حياتك خلال هذا الشهر

GMT 16:06 2020 الإثنين ,01 حزيران / يونيو

لا تتهوّر في اتخاذ قرار أو توقيع عقد

GMT 18:33 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة

GMT 20:18 2021 الأربعاء ,27 كانون الثاني / يناير

وفاة خالة الشقيقتين المغربيتين صفاء وهناء

GMT 14:36 2019 الإثنين ,10 حزيران / يونيو

الرئيس اللبناني ميشال عون يلتقي وفدًا أميركيًا

GMT 12:29 2019 الخميس ,30 أيار / مايو

مجلس الحكومة يعيد تنظيم مسرح محمد الخامس

GMT 05:01 2019 الأربعاء ,10 إبريل / نيسان

دافنشي كان يكتب بيديه الاثنتين بكفاءة

GMT 23:51 2018 الأربعاء ,17 كانون الثاني / يناير

رامز جلال يسخر من غادة عبد الرازق والأخيرة تتوعد له

GMT 12:50 2018 الإثنين ,08 كانون الثاني / يناير

22لاعبًا في لائحة فارس النخيل استعدادًا إلى مواجهة الوداد

GMT 07:54 2012 الجمعة ,22 حزيران / يونيو

ملك إسبانيا يخفض راتبه بنسبة 7.1%

GMT 04:51 2017 الأربعاء ,19 إبريل / نيسان

مصر تتصدر العرب فى الحرب على الفتنة.. المصنعة!

GMT 15:08 2015 الإثنين ,12 تشرين الأول / أكتوبر

هيمنة المتشددين على المجتمع الطلابي في جامعة وستمنستر
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
RUE MOHAMED SMIHA ETG 6 APPT 602 ANG DE TOURS CASABLANCA MOROCCO
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib