ماذا ينتظر العالم في حقبة ما بعد ميركل

ماذا ينتظر العالم في حقبة ما بعد ميركل؟

المغرب اليوم -

ماذا ينتظر العالم في حقبة ما بعد ميركل

بقلم : إياد أبو شقرا
بقلم : إياد أبو شقرا

صُدم كثرة من البريطانيين خلال اليومين الماضيين بمنظر طوابير المواطنين المنتظرين أمام محطات الوقود لملء خزانات سياراتهم. وهذا منظر يعيد إلى ذاكرة أبناء جيلي – وحتى الجيل الأصغر سناً – معاناة توهّم بعض البريطانيين أنَّها ذهبت إلى غير رجعة، بعد التصويت المفصلي على الخروج من الاتحاد الأوروبي (استفتاء «بريكست»).

فريق من البريطانيين، جمع غلاة اليمين وغلاة اليسار، صوّت لصالح الخروج من أوروبا... وسط آمال وأحلام العديد منها متناقض، وجزء منها عنصري متعالٍ ومتطرف ضد الأجانب، وخاصة، الأوروبي الأبيض المسيحي. وكان البعض في هذا الفريق - الكبير نسبياً - يظن أن الأبواب البديلة لأوروبا ستُفتح تلقائياً أمام الاقتصاد البريطاني، بصانعيه ومزارعيه ومستهلكيه. لكن فات هؤلاء أن لا ضمانات ولا صداقات في السوق... وسط اعتبارات التنافس وحسابات الأرباح والكلفة. ثم إنَّ اقتصاديات الدول الصناعية الكبرى تعتمد على مكوّنات تصنّع في دول عديدة، ومن ثم فإنَّ عجلة الإنتاج في كثير من الصناعات كالأدوية والكيماويات والأغذية والآليات تتأثر بقطع خط التوريد، ووضع الحصص «الكوتا» والحواجز، وفرض الجمارك والضرائب.

إلا أنَّ بريطانيا لا تواجه وحدها اليوم مشاكل اقتصادية واستهلاكية، وإن كانت تبعات «بريكست» شبه محصورة بها. وبصرف النظر عن الفوضى والإرباك الناجمين عن جائحة «كوفيد - 19»، التي هزَّت العالم بأسره، فإنَّ دول الاتحاد الأوروبي ومثلها الولايات المتحدة، تمرُّ في حقبة سياسية لا يطمئن معها المحلل السياسي إلى حصافة القيادات وحنكتها وقناعاتها الفكرية والأخلاقية، ناهيك من رؤيويتها ومستوى احترامها لذواتها والمؤسسات الديمقراطية التي أهلتها للحكم.

أدرك أن هذا كلام خطر، ثم أين أنا - المراقب العادي - من الحق في إلقاء «المحاضرات» على قادة وزعماء عالميين انتخبتهم ملايين. غير أن كوني ناخباً – في بريطانيا، في ما يخصّ شخصي – لديّ كل الحق في المساءلة والمحاسبة والمعاقبة عبر صندوق الاقتراع. نعم من حقّي، بل وواجبي، أن أحاسب الشخص أو الحزب الذي أوليته ثقتي بناءً على برنامجه أو وعوده... إذا ارتأيت أنه خدعني أو قصّر في أداء ما توقعته منه.

ولا نبعد كثيراً عن بريطانيا إذا تطرقنا إلى الحال في كل من ألمانيا وفرنسا.

ألمانيا تطوي في هذه الساعات صفحة حكم المستشارة أنجيلا ميركل، بعد فترة حكم طالت 16 سنة، لعلها كانت أفضل تعبير عن الديمقراطية العاقلة والمسؤولة في عموم أوروبا. وبصدق، أرجو أن يسير مَن سيخلف ميركل على خطاها باعتماد سياسات واعية وخلوقة وجامعة تنقذ أوروبا من نوازع الجموح المتطرف الذي يجتاح عدداً من دول القارة، وبالأخص، المجر وبولندا.

النظام الفيدرالي الألماني، مصحوباً بنظام التمثيل النسبي الانتخابي مع عتبة الحد الأدنى لدخول البرلمان، يشكلان وقاية كافية من جموح الشعبوية والعنصرية التي دفعت ألمانيا ثمناً باهظاً لهما خلال القرن الـ20. ثم إن القوى المسؤولة داخل الأحزاب الألمانية الرئيسة أدركت، بحكم التجربة، ضرورة تغليب تعايش المعتدلين يميناً ويساراً من أجل درء خطر متطرفي الاتجاهين. وبالفعل، قادت الأجنحة المعتدلة في الحزبين الكبيرين (الديمقراطي المسيحي المحافظ والديمقراطي الاجتماعي الاشتراكي) نهضة ألمانيا بعد كارثة الحرب العالمية الثانية، وقاد الحزبان إما حكومات حزبية يرأسها قادتهم المعتدلون أو حكومات ائتلافية عريضة التمثيل.

هذا «التفاهم» العريض في وجه الغلوّ اليميني المتزايد الخطورة في أوروبا وأميركا - بفعل العولمة والديموغرافيا والتكنولوجيا - حصّن حتى الآن ألمانيا. ومن ثم أسهم بإنجاح نهج ميركل، ورعى تعزيز مكانة ألمانيا داخل القارة، وأمام التحدي الخارجي... بما في ذلك العلاقات مع أميركا التي تشنّجت لبعض الوقت بفعل مشروع أنبوب الغاز الروسي.

نقيض هذا حاصل اليوم في فرنسا، حيث لا يبدو أن ابتزاز الرئيس إيمانويل ماكرون للناخبين الفرنسيين سيشكل ضمانة له قبل التجربة الانتخابية المقبلة في خضم التسابق بين المتطرفين في الجبهة العريضة المناوئة له. فاليسار الفرنسي المعتدل الذي خرج منه ماكرون - بل انقلب عليه – خسر جاذبيته أمام شعبوية «يسار» جان لوك ميلانشون، أما اليمين فيشهد مزايدات يقودها الصحافي اليميني المتطرف إريك زمّور حتى على زعيمة «التجمّع الوطني» مارين لوبن! وفي هذا الأثناء، تترنّح سياسات ماكرون الخارجية وتقفد بريقها... من مبادرته اللبنانية الاسترضائية لإيران، إلى خسارة فرنسا صفقة الغواصات مع أستراليا، ومن ثم توتر علاقتها نتيجة لذلك مع كل من واشنطن وكانبرا ولندن.

«فزاعة» التطرف أفادت ماكرون حتى الآن، إذ صبّت لصالحه الأصوات الخائفة من جموح التطرف، لكن هذا الحال لا يدوم ولا يصلح كاستراتيجية ثابتة مستقبلاً. وفي هذه الأثناء، في المشهد الأوروبي الأوسع، ثمة مشاكل يتوقع أن تظهر بصورة أجلى في غياب الثقل الألماني العاقل، منها:

1- «التقاعد» الأميركي عن لعب دور مسؤول متّزن. وهذا «التقاعد» نتاج التجاذب غير الصحي بين إدارة ديمقراطية استنسابية ترتاح إلى التسويات والانكفاء والترضية - ليس فقط على حساب الحلفاء والأصدقاء بل أيضاً على حساب المبادئ التي قامت عليها أميركا - ... ومعارضة جمهورية متشدّدة وقاصرة ومغامرة باتت تشكل خطراً على النسيج الأميركي ومؤسسات الدولة.

2- التهديد الذي يواجه الاتحاد الأوروبي نفسه، من نمو قوى التطرف فيه، ومنها قوى باتت حاكمة في دول كالمجر وبولندا، بالإضافة إلى التيارات العنصرية والشعبوية والهامشية التي تتلقى دعماً مستتراً من قوى كبرى.

3- الدور الروسي المتزايد في ظل عودة موسكو إلى لعب دور الاتحاد السوفياتي السابق، مستفيدة من الانكفاء الأميركي عن القارة ومنطقة الشرق الأوسط، بينما توجه واشنطن المنقسمة «آيديولوجياً» على ذاتها... اهتماماً متزايداً إلى التحدي الصيني في آسيا وحوض المحيط الهادي.

4- الارتباك الظاهر على الأقل، في تعامل واشنطن مع «حلفائها» التقليديين، بمن فيهم القوى الأوروبية الاستعمارية والانتدابية، في عدد من النقاط الإقليمية الساخنة كأفريقيا والشرق الأوسط. ولا شك هنا بوجود حسابات معقدة في مناطق بات فيها لكل من بكين وموسكو مواضع قدم ونفوذ اقتصادي وجيوسياسي، بجانب الطموحات الاقتصادية. ولئن كان النفط والأسواق عنصرين مهمين في حسابات «التطبيع» الغربي مع إيران، ففي مخطط «الحزام والطريق» الصيني وأنابيب الغاز الروسية، وبوكسيت غينيا وليثيوم أفغانستان... مؤشرات إلى التحديات المقبلة أمام الغرب في غياب قيادات تاريخية عاقلة وذات توجهات استراتيجية مسؤولة وأخلاقية في آن.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ماذا ينتظر العالم في حقبة ما بعد ميركل ماذا ينتظر العالم في حقبة ما بعد ميركل



GMT 02:13 2024 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

نسور استراتيجية

GMT 02:12 2024 الإثنين ,22 إبريل / نيسان

من مونيكا إلى ستورمي

GMT 02:08 2024 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

الذكاء الاصطناعي يتحدى إيمانويل كانط

GMT 02:04 2024 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

زوجة واحدة لا تكفي!

GMT 02:01 2024 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

تدليل أمريكي جديد لإسرائيل

GMT 02:25 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

نصائح لجعل المنزل أكثر راحة وهدوء
المغرب اليوم - نصائح لجعل المنزل أكثر راحة وهدوء

GMT 06:26 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج الثور الجمعة 30 تشرين الثاني / أكتوبر 2020

GMT 18:41 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

محمد صلاح يعادل رقماً تاريخياً في الدوري الإنكليزي

GMT 23:21 2021 الأحد ,05 أيلول / سبتمبر

أفضل فنادق شهر العسل في سويسرا 2021

GMT 01:18 2021 السبت ,24 تموز / يوليو

صارع دبا لمدة أسبوع وصدفة أنقذت حياته

GMT 04:34 2019 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

سلاف فواخرجي تنعي المخرج شوقي الماجري عبر "إنستغرام"

GMT 19:14 2019 الإثنين ,23 أيلول / سبتمبر

الآثار المصرية تنقل 4 قطع ضخمة إلى "المتحف الكبير"

GMT 17:46 2014 السبت ,14 حزيران / يونيو

"سابك" تنتج يوريا تزيد كفاءة محركات الديزل

GMT 15:11 2012 الخميس ,08 تشرين الثاني / نوفمبر

البيئة النظيفة.. من حقوق المواطنة

GMT 19:42 2014 الثلاثاء ,26 آب / أغسطس

"إل جي" تكشف رسميًا عن هاتفها الذكي LG G3

GMT 04:38 2017 الخميس ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

مارغريت ريدلمان تُشير إلى أسباب الصداع الجنسي

GMT 15:33 2022 الأحد ,23 تشرين الأول / أكتوبر

طرق لإضفاء المساحة على غرفة الطعام وجعلها أكبر

GMT 15:10 2021 الإثنين ,11 تشرين الأول / أكتوبر

إطلالات أنيقة وراقية للنجمة هند صبري

GMT 11:44 2020 الإثنين ,26 تشرين الأول / أكتوبر

أفكار مذهلة لزينة طاولات زفاف من وحي الطبيعة
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib