بلاد ما بين السفيرين

بلاد ما بين السفيرين

المغرب اليوم -

بلاد ما بين السفيرين

بقلم -غسان شربل

يَعرف مصطفى الكاظمي أنَّ رئاسة الوزراء جاءته في توقيت حسَّاس. وأنَّ العالم يتَّجه نحو مرحلة كئيبة وبالغة الصعوبة. وهذا ليس من باب الإغراق في التشاؤم، بل من باب احترام ما يقوله أهل الأختام والأرقام.
مرحلة كئيبة لأننا نسمع دعوات متزايدة إلى التعايش مع الوباء لا بدَّ خلالها من خسارات بشرية جديدة. انتظار مؤلم لخبر من قماشة العثور على دواء أو لقاح. وبانتظار ذلك الخبر ستشيَّعُ جنازات جديدة هنا وهناك وسيزداد شعور العالم بهشاشته. وهو أمر فظيع فعلاً أن ينجح وباء غامض في تذكير عالم الترسانات والمركبات الفضائية والروبوتات بهشاشته، وبقدرة وحش مجهول على تحويل العالم الرحب معتقلاً شاسعاً وفخاً مقلقاً.
ومرحلة صعبة لأنَّ أهل الأرقام يتحدَّثون عن كساد غير مسبوق. وسلسلة من الكوارث. وولادة «شعوب» من العاطلين عن العمل. وموجة هائلة من الإفلاسات وأمواج من القلق مع ارتفاع معدلات الفقر والجوع. وكان يمكن التعويل على مساعدات الدول الغنية أو المقتدرة، لكن استهداف الوباء لهذه الدول أيضاً قلّص آمال الدول الفقيرة بسخاء الآخرين. ويضاف إلى ذلك أنَّ الوباء فتح جروحاً في بعض العلاقات الدولية، وتحديداً بين أميركا والصين، علاوة على الأوجاع الأوروبية المنجبة لمشاعر القلق وعدم اليقين. وإذا كانت المرحلة المقبلة تبدو صعبة حتى في البلدان التي تمتلك مؤسسات عصرية مستقرة قادرة على المبادرة والتكيّف والتطور والمحاسبة، فكيف يكون الحال في البلدان التي تفتقر إلى مثل هذه المؤسسات؟
لا يحتاج الكاظمي إلى من يذكره بويلات نظام صدام حسين. فهو لم يستطع احتمال العيش في ظله، ولهذا غادر وراح يحصي ارتكابات النظام. وحين عاد بعد سقوط نظام صدام انهمك الكاظمي في توثيق جرائم النظام السابق. وقام بمهمته هذه بصفته مواطناً يحلم بعراق آخر وبصفته إعلامياً من حقه تسجيل المرحلة. لكن الكلام عن ارتكابات عهد صدام صار قديماً وإن كان صحيحاً. يعرف الكاظمي ما هو أقرب وأخطر. يعرف ما جرى بعد اقتلاع نظام صدام وتضاعفت التقارير على مكتبه حين اختير قبل أربعة أعوام رئيساً للاستخبارات في البلاد.
والحقيقة أنَّ أخطر ملف على طاولة رئيس الوزراء الجديد هو ملف الفشل العراقي الواضح في مرحلة ما بعد صدام. فشل في بناء مؤسسات دستورية صلبة تحفظ حقوق المواطن وهيبة الدولة معاً، رغم التوجه المتكرر إلى صناديق الاقتراع. وقد أظهرت العمليات الانتخابية والمخاضات العسيرة لتشكيل الحكومات حجم التصدع الذي ضرب العلاقات الشيعية - السنية والذي ترجم احتكاكات دامية كانت بين الثغرات التي سهلت إطلالة «داعش» بعد «القاعدة». والحقيقة هي أن معظم القوى السياسية لم تنخرط في معركة بناء الدولة وفضلت الانخراط في معركة تقاسمها واستباحة مواردها. كانت فكرة الدولة اللاعب الأضعف في كل اختبارات القوة.
ويعرف الكاظمي أنَّ «الشرعية» التي حازتها الميليشيات بفعل مشاركتها في محاربة «داعش» تحولت عبئاً قاتلاً بسبب الإصرار على إحلال منطق الفصائل والتلويح بالقوة مكان منطق المؤسسات ودولة القانون. كما يعرف أنَّ العراق تعرض لعملية نهب غير مسبوقة جعلت دولة تنام على النفط تخشى من عدم قدرتها على تسديد رواتب المتقاعدين. والحقيقة أن حزب الفساد كان أكبر الأحزاب العراقية بعد سقوط صدام، وهو حزب عابر للطوائف والمذاهب والقوميات.
يعرف مصطفى الكاظمي أنَّ مرحلة ما بعد صدام هي مرحلة تبادل الضربات على الملعب العراقي بين أميركا وإيران، خصوصاً بعد انسحاب القوات الأميركية. ومن رافق ما عاشته بغداد في السنوات الماضية يدرك تماماً أن إيران انتزعت لنفسها ما يشبه حق إدارة الشأن العراقي مع أخذ الممانعة الأميركية في الاعتبار. ومن يعرف قصة ولادة الحكومات في بغداد يعرف أنها حملت دائماً لمسة قاسم سليماني بعد فصول من التجاذب الإيراني - الأميركي.
كان سليماني يلعب دوراً يكاد يقترب من دور مرشد مرحلة ما بعد صدام. وكان هذا الدور يصطدم أحياناً بضوابط يرسمها المرجع الشيعي علي السيستاني من دون الرغبة في صدام مباشر وعلني مع إيران. وكان يصطدم أيضاً بمحاولة واشنطن الاعتراض على انزلاق العراق بالكامل إلى الفضاء الإيراني.
جاءت الانتفاضة العراقية أشبه بصرخة احتجاج على فشل الحكومات المتعاقبة في مواجهة وحش الفساد، وكذلك على فشل هذه الحكومات في ترميم العلاقات بين المكونات في رحاب دولة يصنع قرارها الوطني داخل مؤسساتها الشرعية. وأظهرت الانتفاضة أيضاً أنَّ العراقيين تعبوا من تكريس بلادهم ملعباً لاختبارات القوة الأميركية - الإيرانية، ومن تبادل الرسائل الصاخبة على هذا الملعب، خصوصاً بعدما انسحبت أميركا ترمب من الاتفاق النووي وأعادت فرض أقصى العقوبات. وأظهرت عمليات القتل التي تعرضت لها الانتفاضة وبقيت بلا عقاب غلبة منطق الفصائل على منطق الدولة.
كانت استقالة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي في بداية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، دليلاً إضافياً على تردي الوضع الداخلي سياسياً واقتصادياً واجتماعياً ودليلاً جديداً على تصاعد التجاذب الأميركي - الإيراني. وبلغ هذا التجاذب ذروته حين اتخذ ترمب قراراً تفاداه أسلافه، أسفر عن مقتل قائد «فيلق القدس» الجنرال قاسم سليماني وهو الأقرب إلى قلب خامنئي وعقله.
في عالم «كورونا» الصعب منح البرلمان العراقي ثقته لحكومة الكاظمي. مهمة الرجل صعبة وشائكة. لا بدَّ من الإنصات إلى رسائل المحتجين والتعامل، إذا أمكن، مع ملف من تفننوا في اغتيالهم. لا بدَّ من خطة لمواجهة التردي الاقتصادي ووقف عقلية النهب وترميم العلاقات مع إقليم كردستان. لا بدَّ أيضاً من السهر على عدم السماح لـ«داعش» بتسجيل إطلالة جديدة على الساحة العراقية.
تبقى المهمة الأصعب وهي كيفية الخروج من الوضع الذي كرَّس العراق مختبراً للعلاقات الأميركية - الإيرانية وتبادل اللكمات والرسائل. ربما لهذا السبب افتتح الكاظمي نشاطاته باستقبال كل من السفيرين الأميركي والإيراني. قال إنَّ العراق «لا يقبل أن يكون ساحة لتصفية الحسابات، أو منطلقاً للاعتداء على أي دولة جارة أو صديقة». ليس سهلاً أنْ تكون رئيساً للوزراء في بلاد ما بين النهرين وهي أيضاً بلاد ما بين السفيرين.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

بلاد ما بين السفيرين بلاد ما بين السفيرين



GMT 02:13 2024 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

نسور استراتيجية

GMT 02:12 2024 الإثنين ,22 إبريل / نيسان

من مونيكا إلى ستورمي

GMT 02:08 2024 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

الذكاء الاصطناعي يتحدى إيمانويل كانط

GMT 02:04 2024 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

زوجة واحدة لا تكفي!

GMT 02:01 2024 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

تدليل أمريكي جديد لإسرائيل

GMT 02:25 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

نصائح لجعل المنزل أكثر راحة وهدوء
المغرب اليوم - نصائح لجعل المنزل أكثر راحة وهدوء

GMT 09:48 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

قافلة طبية جراحية تتدخل في إقليم ميدلت
المغرب اليوم - قافلة طبية جراحية تتدخل في إقليم ميدلت

GMT 06:26 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج الثور الجمعة 30 تشرين الثاني / أكتوبر 2020

GMT 18:41 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

محمد صلاح يعادل رقماً تاريخياً في الدوري الإنكليزي

GMT 23:21 2021 الأحد ,05 أيلول / سبتمبر

أفضل فنادق شهر العسل في سويسرا 2021

GMT 01:18 2021 السبت ,24 تموز / يوليو

صارع دبا لمدة أسبوع وصدفة أنقذت حياته

GMT 04:34 2019 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

سلاف فواخرجي تنعي المخرج شوقي الماجري عبر "إنستغرام"

GMT 19:14 2019 الإثنين ,23 أيلول / سبتمبر

الآثار المصرية تنقل 4 قطع ضخمة إلى "المتحف الكبير"

GMT 17:46 2014 السبت ,14 حزيران / يونيو

"سابك" تنتج يوريا تزيد كفاءة محركات الديزل

GMT 15:11 2012 الخميس ,08 تشرين الثاني / نوفمبر

البيئة النظيفة.. من حقوق المواطنة

GMT 19:42 2014 الثلاثاء ,26 آب / أغسطس

"إل جي" تكشف رسميًا عن هاتفها الذكي LG G3

GMT 04:38 2017 الخميس ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

مارغريت ريدلمان تُشير إلى أسباب الصداع الجنسي

GMT 15:33 2022 الأحد ,23 تشرين الأول / أكتوبر

طرق لإضفاء المساحة على غرفة الطعام وجعلها أكبر

GMT 15:10 2021 الإثنين ,11 تشرين الأول / أكتوبر

إطلالات أنيقة وراقية للنجمة هند صبري

GMT 11:44 2020 الإثنين ,26 تشرين الأول / أكتوبر

أفكار مذهلة لزينة طاولات زفاف من وحي الطبيعة
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib