“الوهّابيّون” في المسجد الأُمويّ مكر التّاريخ

“الوهّابيّون” في المسجد الأُمويّ.. مكر التّاريخ

المغرب اليوم -

“الوهّابيّون” في المسجد الأُمويّ مكر التّاريخ

نديم قطيش
بقلم - نديم قطيش

فرضت نفسها صورة وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان وهو يؤمّ المصلّين في المسجد الأموي بدمشق، كلحظةٍ تتجاوز البروتوكول، وتلامس عمق التحوّلات التي تعيشها المنطقة.

لم تكن الصلاة أداء شعيرة وحسب، بل تجسيدٌ مكثّفٌ لعودة سرديّة عربية جديدة إلى قلب الشام، بعدما حاولت، ولا تزال، عواصم إقليمية، كطهران وأنقرة، مصادرة رموزها وتغيير هويّتها.

إبّان حكم نظام بشّار الأسد وفي ذروة السطو الإيراني على سوريا، حاولت الميليشيات الموالية لإيران تلوين المسجد الأمويّ، رمز الخلافة الأمويّة والهويّة السنّية العربية، بطابع مذهبي يستعيد الصراع بين الخليفة معاوية بن أبي سفيان والإمام عليّ بن أبي طالب، ولاحقاً بين نجلَيهما، يزيد بن معاوية والحسين بن عليّ، على الرغم من أنّ المسجد الأمويّ بُني بشكله الضخم والمعروف اليوم، على أساسات وهيكل كاتدرائية يوحنّا المعمدان البيزنطيّة، في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك بن مروان (705-715م)، أي بعد وفاة معاوية بأكثر من 30 عاماً.

مع ذلك لم تتورّع الميليشيات الشيعية، وعلى رأسها “الحزب”، عن إحياء طقوس عاشوراء، في حرم المسجد الأمويّ، كنايةً عن نفوذ “الهلال الشيعي” والتبجّح الإيراني بشأن احتلال أربع عواصم عربية هي دمشق، بغداد، بيروت وصنعاء.
فرضت نفسها صورة وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان وهو يؤمّ المصلّين في المسجد الأموي بدمشق، كلحظةٍ تتجاوز البروتوكول

مفارقات مذهلة

شكّلت دمشق في الوعي الإمبراطوري لإيران الخمينيّة حلقة وصل حيويّة، بين طهران و”الحزب”، بينما وفّرت شواطئ المتوسّط، عبر موانئ مثل بيروت واللاذقية وطرطوس، منفذاً بحريّاً لنقل الأسلحة وتسهيل مشروع الفوضى الإيراني، مدعوماً بقواعد عسكرية وهجرة شيعية لتغيير ديمغرافية المنطقة، لا سيما دمشق، بعد بيروت!

على الضفّة الأخرى، وبعد سقوط نظام الأسد وقبله، كان وعد صلاة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في المسجد الأمويّ، يتكرّر مختصِراً أبعاداً جيوستراتيجيّة، تاريخية وميدانية متشابكة. فهذا وعد ينسلّ من طموح تركيا لتقليص النفوذ الإيراني في سوريا، وتعزيز الدور الإقليمي لأنقرة، القوّة السنّية القياديّة في المشرق، المؤهّلة للموازنة بين روسيا والغرب. وتحاكي هذه الرمزيّة الإرث العثماني، الذي لطالما استلهمه إردوغان لصياغة مشروعه الإقليمي، بوصف دمشق حاضرةً من حواضر السلطنة الرائدة، وعنواناً من عناوين شرعيّتها الدينية والسياسية. وإذ ركّزت تركيا الإردوغانية دعمها على الفصائل الإسلامية المسلّحة ومتفرّعات الإخوان، من بين فصائل الثورة ضدّ نظام الأسد، استوى المسجد الأمويّ ووعد الصلاة فيه، صورة للنصر الموعود.

بيد أنّ التاريخ ماكر. لا يمنح رموزه بلا أثمان. ولا يعيد تدوير مجده دون أن يُذكّر بثقله. ربّما من المفارقات المذهلة، أنّ العثمانيين خاضوا قبل قرنين فقط من صلاة الأمير فيصل بن فرحان في المسجد الأمويّ، حرباً ضدّ الدعوة الوهّابية الصاعدة، لمنعها من الوصول إلى الشام، وأسقطوا، بدعم من نخب دينية شاميّة وأخرى مكّيّة وحجازيّة، الدولة السعودية الأولى عام 1818.

رأت السلطنة في الدعوة الوهّابية خطراً سياسيّاً بعد نجاحها في خلق كيان مركزيّ مستقلّ في نجد، وثورة لاهوتيّة جذريّة، تُعيد تعريف الإسلام خارج الإطار العثماني التقليدي، على نحو يهدّد نظام السلطنة برمّته: من شرعيّة الخلافة، إلى سلطان الطرق الصوفيّة، إلى هيبة المذاهب الأربعة التي كانت عماد السلطة الروحيّة في إسطنبول.
لم تكن الصلاة أداء شعيرة وحسب، بل تجسيدٌ مكثّفٌ لعودة سرديّة عربية جديدة إلى قلب الشام، بعدما حاولت، ولا تزال، عواصم إقليمية، كطهران وأنقرة، مصادرة رموزها وتغيير هويّتها

رؤية عربيّة ناضجة

تفارق إمامة بن فرحان للصلاة في المسجد الأمويّ هذه السياقات العقائدية المدفوعة بحنين لاستعادة الهيمنة، وتفرض نفسها جزءاً من سرديّة سعوديّة جديدة تمزج بين الانفتاح والهويّة، بين التراث والمستقبل، وتطمح إلى قيادة عربيّة عقلانية لا مذهبيّة، حديثة لا فوضويّة.

لا يغيب عن الوعي السعودي أنّ الدولة الأمويّة نفسها، على الرغم من كونها مشروعاً حداثيّاً منفتحاً ومتسامحاً مع تنوّع مجتمع الإمبراطورية ومهووساً بفكرة العمران، قصفت جيوشها مكّة مرّتين بالمنجنيق، خلال عهدَي يزيد بن معاوية (683م)، وعبدالملك بن مروان (692م) لإخماد تمرّد عبدالله بن الزبير الذي أعلن نفسه خليفة في الحجاز.

وعليه، لا تستدعي السعودية، بقيادة وليّ العهد الأمير محمد بن سلمان، الأمويّين بدافع حنين عشوائيّ، بل بوصفهم نموذجاً لدولة إسلامية قويّة ومنظّمة، أسّست نظماً متقدّمة في البريد والعملة والإدارة. فرؤية 2030 ليست خطّة تنمية وحسب، بل سرديّة حضاريّة تعيد تعريف العلاقة بين الدين والدولة، وبين التاريخ والجغرافيا، وبين الطقوس والحداثة.

تستلهم السعوديّة الجديدة إرث الأمويّين في التحديث لا في القمع، في المركزيّة لا في الهيمنة، في الطموح لا في العسف. ولهذا، إمامة الأمير فيصل ليست مشهداً روحيّاً وحسب، بل بناء سرديّ جديد: نحن ورثة العمارة الأمويّة، لا منجنيقها. نحن حماة مكّة، لا محاصروها. نحن أبناء الإسلام المنتج، لا الإسلام الميليشياويّ أو المذهبيّ.

صلاة الأمير فيصل بن فرحان تُغلق قوساً بدأ يوم حاولت ميليشيات طهران ليّ عنق التاريخ والمستقبل، وتفتح قوساً آخر، لدولة عربية حديثة وإسلام متسامح، حداثيّ، لا يُجعل منه منصّةً للهيمنة، بل إطار للاستقرار والسكينة في الدين والمجتمع والدولة.

دمشق التي كانت قِبلة الأمويّين، تعود اليوم لتكون مرآة لرؤية عربية أكثر نضجاً: دولة تحترم رموزها، دون أن تتورّط في تقديسها. تستدعي التاريخ، لكنّها لا تُقيم فيه. ولهذا قد تكون الصورة أهمّ من الحدث نفسه، لأنّها تلخّص سؤال اللحظة: أيّ إسلام نريد؟ وأيّ شام نستعيد؟

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

“الوهّابيّون” في المسجد الأُمويّ مكر التّاريخ “الوهّابيّون” في المسجد الأُمويّ مكر التّاريخ



GMT 00:10 2025 الأحد ,22 حزيران / يونيو

المنطقة والحرب وسأم التاريخ

GMT 00:01 2025 الأحد ,22 حزيران / يونيو

إيران وإسرائيل... نزاع وبنك أهداف يتوسع

GMT 23:53 2025 الأحد ,22 حزيران / يونيو

من بلفور إلى ترمب

GMT 23:51 2025 الأحد ,22 حزيران / يونيو

لا حياد في العدوان.. صواريخ تفرح القلوب

GMT 23:46 2025 الأحد ,22 حزيران / يونيو

معنى تفكيك برنامج إيران الصاروخى

GMT 15:41 2025 السبت ,21 حزيران / يونيو

اعتذار متأخر من «مادلين»

GMT 15:39 2025 السبت ,21 حزيران / يونيو

عبدالله الثاني ورفض الاستسلام للقوّة

هيفاء وهبي تتألق بتنسيق اللون الزهري والأسود مع لمسة الذهبي

القاهرة - المغرب اليوم

GMT 06:22 2017 السبت ,23 كانون الأول / ديسمبر

عبير الأنصاري ترصد عيوب أزياء النجمات في مهرجان دبي

GMT 22:33 2016 الأحد ,30 تشرين الأول / أكتوبر

أمال بوكير بنت المنطقة الجبلية تدخل قبة البرلمان

GMT 12:41 2018 الثلاثاء ,02 كانون الثاني / يناير

فتاة أردنية تبتكر طريقة رائعة لاستقبال العام الجديد

GMT 12:07 2012 الخميس ,13 أيلول / سبتمبر

الموسيقى الكلاسيكية و الفنون في براغ البوهيمية

GMT 19:18 2017 الأربعاء ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

المصابون في فاجعة الصويرة يغادرون المستشفى بعد العلاج

GMT 13:03 2016 الأحد ,25 أيلول / سبتمبر

حول العين عن الأطفال الصغار
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib