السودان ومخاطر الحل الرمادي

السودان... ومخاطر الحل الرمادي

المغرب اليوم -

السودان ومخاطر الحل الرمادي

عثمان ميرغني
بقلم : عثمان ميرغني

هناك معطيات وشواهد ومعلومات كثيرة تؤشر كلها نحو قرب انتهاء حرب الخرطوم في مرحلتها الأكبر والأخطر. صحيح أن الحرب الإعلامية والنفسية الدائرة التي يبدو واضحاً أن «قوات الدعم السريع» استعدت لها جيداً تشوش الصورة، وتربك تفكير الناس، إلا أن هذا لا يلغي حقيقة أن هناك تحولات كبيرة ونوعية في المعارك الميدانية، وأن الكفة تميل لصالح القوات المسلحة.

فإذا كانت قيادة «قوات الدعم السريع» خططت للاستيلاء على السلطة بضربة سريعة ومباغتة، وفرض السيطرة على العاصمة، وعلى الجيش، بعد تصفية قياداته، ثم إعادة هيكلته بدمجه في «الدعم السريع»، وليس العكس، حسب ما عبر عنه البعض، فإن هذا المخطط قد فشل تماماً، وليس وارداً أنه سيتحقق بأي صورة كانت الآن.

من الناحية العسكرية أيضاً تمكَّن الجيش من امتصاص الصدمة الأولى، ليبدأ بعد ذلك هجومه المضاد الذي دمر فيه، أو فرض السيطرة على كل المعسكرات الرئيسية لـ«قوات الدعم السريع»، ومراكز القيادة والتحكم، حتى باتت هذه القوات تقاتل كمجموعات متفرقة. ويمكن ملاحظة التغييرات العسكرية الأخيرة من خلال التحول في خطاب عناصر «الدعم السريع» التي ظلت ناشطة إعلامياً بشكل كبير منذ اللحظات الأولى للحرب؛ فقد تقلصت الوتيرة الكثيفة لمقاطع الفيديو الدعائية التي كانت تتحدث عن انتصارات، وخفت صوتها كثيراً في الآونة الأخيرة، في إقرار غير مباشر بصعوبة الوضع على الأرض. وعلى سبيل المثال، انتشر خلال الأيام القليلة الماضية تسجيل لأحد عناصر «الدعم السريع»، وهو يناشد زملاءه عدم الهروب من الخرطوم، قائلاً إن الهدف «دولة وليس سيارة أو مالاً»، وإنهم إن تسلموا الخرطوم فلن يكونوا بحاجة للعودة إلى دارفور.

الأمر الآخر الذي رصده كثيرون أن «قوات الدعم السريع» انسحبت من مواقع وشوارع ظلت موجودة فيها لفترة، بينما رصدت عمليات هروب ترك فيها المجندون وراءهم سياراتهم العسكرية بأسلحتها أحياناً، واستقلوا سيارات مسروقة محملة بالأشياء المنهوبة من منازل المواطنين أو من الأسواق.

وبينما تبرز المؤشرات على تحول الكفة تدريجياً لصالح الجيش، يبدو محيراً موقف أولئك الذين يتشبثون بشعار أن هذه الحرب لا منتصر فيها. فالحقيقة أن هذه الحرب ولمصلحة السودان يُستحسن أن يكون فيها منتصر واحد، وهو الجيش؛ فليس هناك دولة عاقلة يمكن أن تقبل بوجود ميليشيات وقوات رديفة، والسودان دفع منذ زمن، ولا يزال يدفع، ثمناً باهظاً لهذه المشكلة، التي تتوج اليوم بهذه الحرب الدائرة في الخرطوم. ورغم ذلك، نسمع مَن يقول إنه على الحياد، وكأن هذه الحرب تدور في كوكب آخر، أو من يقول إنه لا يريد انتصار القوات المسلحة السودانية «لأنه لا يريد عودة فلول النظام السابق»، ولا يريد في الوقت ذاته انتصار «الدعم السريع»، لأن ذلك سيعني الفوضى وحكم الميليشيات.

فماذا يريد أصحاب هذا الرأي الرمادي؛ حرباً بلا نهاية؟ أم صيغة تنهي القتال على الأرض وتبقي على الأزمة سياسياً، بمعنى إعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل 15 أبريل (نيسان) الماضي، على الأقل فيما يتعلق بوضع «قوات الدعم السريع»؟

هذا الطرح يتجاهل التغيير الكبير في المزاج العام السوداني تجاه «الدعم السريع»، بعد نحو شهرين من الحرب المدمرة، بعد ما رأوه من استباحة بيوتهم، واحتلال المنشآت الطبية والخدمية، ونهب المصانع والمحلات التجارية والأسواق والبنوك، وبعد الترويع والإذلال الذي عاشوه.

والسؤال هنا هو: هل العودة إلى وضع ما قبل 15 أبريل الماضي ممكنة أصلاً، وهل هي حل أم مجرد تجميد للصراع وترحيله إلى لحظة أخرى ينفجر فيها بشكل أسوأ، في ضوء حقيقة أن التعايش بين القوات المسلحة السودانية و«قوات الدعم السريع» بات مستحيلاً، بعد ما أُريق من دماء، وما تكبده البلد من دمار واسع؟

الحقيقة أن العودة إلى وضع ما قبل 15 أبريل ليست خياراً واقعياً؛ فالحرب فرضت واقعاً جديداً ستكون له تداعياته على المشهد السياسي والاقتصادي والعسكري.

انعدام الثقة بين الطرفين يعني أن أي تهدئة ستكون في واقع الأمر محاولة للتحشيد العسكري، ومحاولة تحقيق تقدم ميداني على الأرض؛ ما يجعل الحديث عن حل «تفاوضي» لتجسير الهوة وإعادة الأمور إلى ما كانت عليه أو إلى صيغة تعايش بين الجيش و«الدعم السريع»، أو بين الجيش والشارع السوداني، مِن باب التمنيات، وليست قراءة دقيقة للتعقيدات الكبيرة التي طرأت بعد الحرب.

هذه الحرب ستنتهي حتماً، لكن هذا لا يعني أن تكون المرحلة المقبلة أقل صعوبة؛ فالأولويات عديدة ومصيرية، وينبغي أن يكون من بينها محاسبة المسؤولين والمتورطين في هذا المستنقع الذي غرق فيه السودان. فعدم المحاسبة وسياسة «عفا الله عما سلف» كان دائماً إحدى المشكلات التي عادت على البلد بعواقب وخيمة. وإذا خرج اليوم «الدعم السريع» بأي مكاسب، مهما كانت قليلة، من هذه الحرب، فإن ذلك يمكن أن يشجع حركات مسلحة أخرى على محاولة طريق الانقلابات واقتحام العاصمة؛ للسيطرة على مركز البلد والسلطة، مدركة أنها إن فشلت فلن تُحاسَب، بل تُكافَأ بمناصب ومزايا. ورسالة مثل هذه ستكون وبالاً على السودان، لا سيما في ظل كثرة الحركات المسلحة، وانتشار السلاح بشكل منفلت. وليس بعيداً عن الأذهان أن السودان مر بتجربة أخرى عام 2008، عندما قامت حركة العدل والمساواة، تحت قيادة خليل إبراهيم، بمحاولة فاشلة لغزو العاصمة بهدف السيطرة على مقاليد الأمور.

الحرب الدائرة الآن لم تكن حرب اختيار بالنسبة للجيش السوداني، بل أُجبر عليها كما تكشف حتى الآن وسيتكشف لاحقاً. لكن المواطن السوداني هو مَن يدفع أكبر الأثمان. ومن المفهوم أن هناك نفاد صبر لدى الشارع السوداني من طول فترة المواجهات وعنفها، وانعدام الأمن، وغياب الخدمات الأساسية، لكن نفاد الصبر هذا يجب ألا يتحول لأداة لتثبيط العزيمة لإكمال مهمة توحيد السلاح في يد القوات المسلحة السودانية؛ فأي حل بخلاف ذلك سيكون قنبلة موقوتة لا يريدها أحد.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

السودان ومخاطر الحل الرمادي السودان ومخاطر الحل الرمادي



GMT 10:54 2024 الخميس ,21 آذار/ مارس

«مسار إجبارى».. داش وعصام قادمان!!

GMT 10:52 2024 الخميس ,21 آذار/ مارس

الفوازير و«أستيكة» التوك توك

GMT 10:49 2024 الخميس ,21 آذار/ مارس

الأخلاقى والفنى أمامنا

GMT 10:47 2024 الخميس ,21 آذار/ مارس

ذكرى عودة طابا!

GMT 02:25 2024 الخميس ,25 إبريل / نيسان

نصائح لجعل المنزل أكثر راحة وهدوء
المغرب اليوم - نصائح لجعل المنزل أكثر راحة وهدوء

GMT 06:26 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج الثور الجمعة 30 تشرين الثاني / أكتوبر 2020

GMT 18:41 2021 الأحد ,12 كانون الأول / ديسمبر

محمد صلاح يعادل رقماً تاريخياً في الدوري الإنكليزي

GMT 23:21 2021 الأحد ,05 أيلول / سبتمبر

أفضل فنادق شهر العسل في سويسرا 2021

GMT 01:18 2021 السبت ,24 تموز / يوليو

صارع دبا لمدة أسبوع وصدفة أنقذت حياته

GMT 04:34 2019 الجمعة ,11 تشرين الأول / أكتوبر

سلاف فواخرجي تنعي المخرج شوقي الماجري عبر "إنستغرام"

GMT 19:14 2019 الإثنين ,23 أيلول / سبتمبر

الآثار المصرية تنقل 4 قطع ضخمة إلى "المتحف الكبير"

GMT 17:46 2014 السبت ,14 حزيران / يونيو

"سابك" تنتج يوريا تزيد كفاءة محركات الديزل

GMT 15:11 2012 الخميس ,08 تشرين الثاني / نوفمبر

البيئة النظيفة.. من حقوق المواطنة

GMT 19:42 2014 الثلاثاء ,26 آب / أغسطس

"إل جي" تكشف رسميًا عن هاتفها الذكي LG G3

GMT 04:38 2017 الخميس ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

مارغريت ريدلمان تُشير إلى أسباب الصداع الجنسي

GMT 15:33 2022 الأحد ,23 تشرين الأول / أكتوبر

طرق لإضفاء المساحة على غرفة الطعام وجعلها أكبر

GMT 15:10 2021 الإثنين ,11 تشرين الأول / أكتوبر

إطلالات أنيقة وراقية للنجمة هند صبري

GMT 11:44 2020 الإثنين ,26 تشرين الأول / أكتوبر

أفكار مذهلة لزينة طاولات زفاف من وحي الطبيعة
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib