في ذكراه اقرأوا روايته

في ذكراه.. اقرأوا روايته

المغرب اليوم -

في ذكراه اقرأوا روايته

خالد منتصر
بقلم : خالد منتصر

رحل الكردوسى وللأسف أشد ما تألم منه قبل موته ليس المرض بقدر ما كان إهمال إبداعه الفنى وعدم الاحتفاء بروايته العذبة الرائعة والوحيدة، اختطفت نداهة الصحافة الكردوسى وحرمتنا من كنوز إبداعاته فى مجالات الفن المختلفة، نتيجة مفرمة المطبعة، التى لا ترحم ولا ترتوى وتدهس فى طريقها لحظات التأمل.

محمود الكردوسى كان يمتلك الحس الروائى واللغة الرشيقة والخيال الجامح والتفكير بالصورة ورؤية المدفون والمطمور أسفل تراب العادة وطمى المألوف، وفوق هذا وذاك هو ابن الصعيد، هذه البقعة من العالم التى اختزنت فى نواتها أساطير العالم بحكمتها الموجعة وخرافاتها المدهشة، واختزلت فى حكاياتها عصارة الكون بكل أعاصيره العاصفة وسكونه الغامض، لذلك كنت سعيداً بصدور روايته «ذائقة الموت»، واحتفيت بلحظات انفلات المبدع من قبضة الصحفى، والهروب من لهاث الديسك والسبق والمانشيت إلى تروى الحلم وتمهل النسج الروائى والسبك القصصى، هى رواية تحس أنها فى بعض الفصول قد كتبت بأظافر تخدش وتعرى لحم الزيف، لتكشف عرى الحقيقة الكامن فى الأحشاء، وفى البعض الآخر تشعر بأنها قد كُتبت بقوس كمان يطبطب بالموسيقى على قلب من يعيشون على الكفاف، رواية يحضر فيها الجنس والموت بنفس الكثافة والسخونة والحميمية، كأننا نعيش مارشاً جنائزياً فى ليلة حمراء، رواية يتجاور فيها الدين بعمقه وتوغله ورتوش الطائفية واحتكار السماء إلى جانب رقص الغوازى وحلقات الذكر وانحرافات الخطيئة، يصف بيوت فقراء الصعيد وآلامهم وأوجاعهم وصراعاتهم، وكأنه يحمل جهاز أشعة رنين مغناطيسى يكشف المخبوء، هناك فقرات هى أقرب إلى الشعر بروح الأبنودى وأمل دنقل.

لكن رغم كل خشونة جو الصعيد، فإنك فى كل أجزاء الرواية لن تشعر إلا بمظلة الحب والعشق لكل ما هو صعيدى، حتى لو كان مغموساً فى مساحة خرافة، أو متأثراً بمسحة قهر، أو مختلطاً بأنين فقر. برع «الكردوسى» فى التسلل إلى القارئ ومراوغته قاصداً ومتعمداً ومع سبق الإصرار والترصّد، حتى لا يعرف الخط الفاصل بين الواقع والأسطورة، كله ملضوم فى عقد روائى وسردى واحد لا تستطيع معه فرز الاكسسوار التايوانى من الفصوص الألماظ!، وذلك حتى لا تضيع متعة السباحة فى بحر الرواية ببوصلة التشكّك والتمحيص فى المد والجزر والعمق وسرعة الرياح، أجواء من كافكا وماركيز ويحيى الطاهر وهنرى ميللر، فى نهاية الرواية يرحل الأستاذ المحترم المبجل عبدالرحمن، أيقونة القرية بسرطان الدم، ومع موته يموت عبدالناصر الحلم، والذى بجنازته تُختتم ملحمة ذائقة الموت، وأنت لا تعرف هل المعزون والسائرون فى الجنازة يشيعون أم يتضرعون؟!

لقد فقدت الكتابة الصحفية أسطى من أسطوات الشغلانة، قلماً مغموساً فى الوجع والدهشة والفن، دهشة الطفل ونزق المراهق وحكمة الشيخ، كانت قراءة ما يكتبه متعة ودرساً، عباراته منحوتة من إيقاع النبض والأعصاب، فيها بكارة وطزاجة وصدمة غير المألوف دائماً، كان حزيناً عندما هاتفنى عندما كتبت عن روايته «ذائقة الموت»، وقال لى أنت تقريباً الوحيد الذى كتب عنها وقرأها بتركيز، الرواية بديعة حقاً وتستحق قراءات نقدية كثيرة لثرائها وعمقها، لكن الكردوسى كان فناناً خالداً يدفع ثمن خصومات السياسة العابرة وحماقات مزاج الفنان المتقلب العاصف، كنت دائماً أقول له كتاباتك الفنية تحتاج إخلاصاً أكبر، لكنها ماكينة الصحافة اليومية التى لا تقنع بشراكة الفن وتفرم كثيراً من الموهوبين فى مفرمتها السحرية.

نفتقد ضحكاتك المجلجلة وسخرياتك اللاذعة وحكاياتك الموجعة ومواعيدك المتأخرة ووعودك المؤجلة وتمردك الجميل وقلمك المتفرد يا كردوسى.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

في ذكراه اقرأوا روايته في ذكراه اقرأوا روايته



GMT 16:20 2024 السبت ,15 حزيران / يونيو

سنوات يوسف العجاف

GMT 16:18 2024 السبت ,15 حزيران / يونيو

غزة ومحكمة العدل الدولية

GMT 16:12 2024 السبت ,15 حزيران / يونيو

هل يفسد أتباع إيرانَ الحج؟

GMT 16:10 2024 السبت ,15 حزيران / يونيو

أوروبا أمام مرآتها المتحركة

استوحي إطلالاتك لسهرات عيد الأضحى من من ديانا كرزون

القاهرة - المغرب اليوم

GMT 08:57 2024 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

منصة "إكس" تمنح المشتركين ميزة التحليلات المتقدمة
المغرب اليوم - منصة

GMT 23:39 2024 الأربعاء ,05 حزيران / يونيو

فابريزيو رومانو يٌوضح رقم قميص مبابي في ريال مدريد

GMT 13:52 2017 الأحد ,29 تشرين الأول / أكتوبر

"آبل" تكشف عن سعر إصلاح شاشة هاتف "آي فون 10"

GMT 02:07 2017 الثلاثاء ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

الصورة الأولى لنجل كريم بنزيمة على "إنستغرام"

GMT 23:33 2014 الإثنين ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

القيادي محمد يتيم يشغل زوار صفحته بـ"جلابته الصوفية"

GMT 09:01 2017 الجمعة ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

قطع مجوهرات لوي فيتون الراقية تستغرق من أجل صناعتها عامًا

GMT 20:32 2017 الأربعاء ,11 تشرين الأول / أكتوبر

حيوانات الرنة مهددة بالانقراض بسبب تغير المناخ
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib