الزلزال القادم

الزلزال القادم

المغرب اليوم -

الزلزال القادم

سوسن الأبطح
بقلم:سوسن الأبطح

بدا لنا في لبنان أننا بلغنا النهاية، فما بالك بأولئك الذين على فوّهة الزلزال؟!
الثالثة والربع فجراً، أخذ المنزل يرتج ويميد بنا، نحن الذين عايشنا هزّات عديدة، وحروبا وانفجارات، وسيارات مفخخة، صعقنا لهول وغرابة ما نرى. حين تصاعدت وتيرة الارتجاج وتكررت وعلت وتفاقمت، وأخذت تصدر هديراً جنائزياً، ظننا أن المحنة لن تنتهي قبل أن يهوي المبنى بنا وينهار.
نسمع صوت طقطقات خشب الأثاث، صريراً يخرج من الأبواب والنوافذ، وكأنما كل ما في المنزل يتحرك ويستعد للتداعي، مع الحيطان المرتجفة. مقاطع حية من فيلم رعب فاق فيه الواقع جموح الخيال. وصف زميلي وأستاذي سمير عطا الله تلك الثواني الأربعين، التي بدت كدهر، وقسوة العاصفة والمطر والصقيع في الخارج، وصعوبة الهرب من قضاء الله إلى قضاء الله، كما لا أجيد ولا أعرف.
زلزال آخر بعد دقائق والرعب نفسه، وشكراً لمن أعلمنا أن مركز التصدّع في تركيا وليس في عقر دارنا، لننتبه أن الكارثة الكبرى وقعت بالفعل، لكن ليس عندنا هذه المرة. مرت ساعات طويلة، قبل أن نسمع عن أول أخبار الانهيارات والدمار المميت في سوريا وتركيا.
صادما كان البطء في الحركة تجاه الضحايا الذين دفنوا أحياء تحت ركام منازلهم. صحيح أن ساعات الفجر ليست الوقت المثالي، لردود الفعل الذكية، سواء من السكان الذين صدموا وهم نيام، أو المسؤولين الذين كانوا في غفوتهم. لكن الحدث، أكبر من أي غفلة. آلاف الضحايا في البلدين، تكّومت فوقهم طوابق من حديد وإسمنت، وآخرون حشرت أطرافهم بين الخرسانات، وتركوا ينزفون، ولا أحد يبحث عنهم.
لا نعرف على وجه الدقة، تفاصيل القصص المفزعة للعائلات الكثيرة التي لا تزال تحت الأنقاض، ولا الشعور الرهيب بالاختناق، والتجمد في الصقيع، وهم ينتظرون النجدة، وقد حاول أحبتهم إخراجهم بالمعاول والأيدي العارية، والصراخ والنواح. كل لحظة تقاعس تمر، يقابلها أرواح تغادرنا ونحن في عجز معيب. إنه تأخر يوازي القتل المتعمد.
منطقة زلزالية تاريخياً، لا تمر ثلاثون سنة، إلا وتنشق الأرض الغضبى لتبتلع الآلاف، ومع هذا نجد البيوت من تركيا مروراً بالعراق وسوريا ولبنان وحتى في إسرائيل المزهوة بعضلاتها الخنفشارية، في عمائر، غالبيتها لا تقاوم ارتجاجاً ولا تصمد أمام كارثة. حتى المباني الكثيرة المقاومة للزلازل في تركيا، في غالبيتها، للأسف، لا تستوفي مواصفات الأمان. الجميع يتحسسون ما صنعت أيديهم، ويتحضّرون للكارثة المقبلة، ويعرفون أن الفساد والرشوة والاستهتار جميعها مسؤولة عن مقتل الأبرياء، والمقابر الجماعية.
ما يزيد على 60 في المائة من مباني إسطنبول يعاني من مخالفات في البناء. بيوت الجنوب التركي التي انهارت بالمئات كأوراق متداعية ليست أفضل حالاً. في لبنان يعتقد أن 80 في المائة من العمارات التي شيدت في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، على الساحل، لا يمكنها أن تقاوم زلزالاً بدرجة 7 على مقياس ريختر. وفي سوريا، حولت سنوات الحرب الاثنتا عشرة المنازل إلى منشآت بسكوتية، وتركتها مهملة مهلهلة وحاضرة للسقوط.
لو فكرت في أهالي إدلب وحلب والمناطق المنكوبة بالهزة القاتلة، وكيف أن البلاء الأخير، أتى تتويجاً لمجموعة ميتات وآلام ونزف وقهر، توالت عليه جهات عدة، وكأنما لم يبق أحد لم يتواطأ على هؤلاء المساكين، عندها تتساءل: أما آن لهذا الظلم أن ينتهي!
ماذا يفعل أهالي هذه المنطقة المنكوبة بفيالقها الزلزالية المدمرة، غير أنهم يتلهون عن تحسين شروط مصائرهم السوداء بالاقتتال والتناحر والحقد ليجعلوا منها أكثر حلكة. ما حدث في سوريا وتركيا، مرشح في أي لحظة لأن يتكرر في المكان نفسه أو في تشيلي أو الصين أو المكسيك. شاءت الطبيعة هذه المرة، أن يموت سوريون لا لبنانيون أو فلسطينيون، فماذا نحن فاعلون في المرات المقبلة؟
عاجزة حكومة إردوغان، وحكومة الأسد، وأي حكومة في العالم بمفردها، عن كسب السباق مع الزمن وإنقاذ آلاف المدفونين تحت الأنقاض في عشرات الأحياء المدمرة، في ظرف يوم أو يومين على الأكثر، إذ إنه بعدهما يصبح العثور على أحياء أشبه بمعجزات.
هذا الهول الجهنمي، من صنف الكوارث الطبيعية الضخمة، التي تحتاج إلى تنسيق محكم، لأنها يمكن أن تباغت البيض والشقر، كما الصفر والسمر، من دون تفرقة. فكما أنشأت الأمم منظمات تجتمع وتتداول في حال الحروب ومن أجل حقوق الإنسان، وتنظيم الاقتتال، يفترض أن تكون ثمة منظمة تنسق المعونات الدولية، على عجل، في لحظة الكوارث السماوية والأرضية، وما أكثرها! لا بل من المفترض أن تكون خطط استباقية - هذا لو كنا فعلاً متحضرين وأذكياء كما ندّعي - لمواجهة زلزال ضخم، أو بركان مريع، أو تسونامي قاتل، كالذي شهده شرق آسيا، وتحديداً المحيط الهندي عام 2004، ولا تزال مآسيه عالقة في الأذهان.
فما فائدة الذكاء الصناعي، وصواريخ تجوب الفضاء، وسيارات تقود نفسها، وعجائب التواصل، إن لم تسخر لرفع الضيم عن المتألمين في لحظات البؤس الإنساني، بصرف النظر عن جنسيات الضحايا وأديانهم. فاليوم دور سوريا وتركيا، وغداً قد تكون اليونان أو إيطاليا. وما يحتاج إليه بالفعل المدفونون أحياءً، رافعات وشاحنات، ومعدات حفر، لانتشالهم، وخيام وأطعمة وأدوية لعشرات الملايين الذين كتبت لهم الحياة، وحُكموا بالتشرد.
ما نراه، ليس فقط عجزاً فردياً أمام حكم الطبيعة وجبروتها وقوانينها وأحكامها التي لا مرد لها، وإنما ارتباك، وجمود، ومساعدات فوضوية خجولة، وما يشبه الخذلان العالمي، أمام مأساة إنسانية، لا يمكن لبشري ذي ضمير أن يحتملها، ويبقى متفرجاً.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الزلزال القادم الزلزال القادم



GMT 07:19 2023 الثلاثاء ,01 آب / أغسطس

شكراً لعدم قتل العالم

GMT 07:17 2023 الثلاثاء ,01 آب / أغسطس

«وثائق» عن بعض أمراء المؤمنين

GMT 07:05 2023 الثلاثاء ,01 آب / أغسطس

محمد السادس «مخزن» الوضوح السياسي

GMT 06:01 2023 الخميس ,09 شباط / فبراير

ليست لغزاً ولا يحزنون

GMT 05:57 2023 الخميس ,09 شباط / فبراير

نادية الجندى وتكريم مستحق فى (العين)!
المغرب اليوم - جراحون يزرعون للمرة الثانية كلية خنزير لمريض حي

GMT 06:51 2024 الإثنين ,22 إبريل / نيسان

أفضل أنواع الستائر الصيفية لإبعاد حرارة الشمس

GMT 17:53 2024 الثلاثاء ,09 إبريل / نيسان

محمد صلاح يضيف لرصيده 3 أرقام قياسية جديدة

GMT 13:50 2012 الخميس ,08 تشرين الثاني / نوفمبر

البيئة النظيفة.. من حقوق المواطنة

GMT 21:44 2021 الأحد ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

أشهر الوجهات السياحية المشمسة في الشتاء

GMT 00:48 2021 الإثنين ,04 تشرين الأول / أكتوبر

إسبانيول يفاجئ ريال مدريد بخسارة مؤلمة

GMT 00:06 2021 الأحد ,03 تشرين الأول / أكتوبر

مباراة "قناة رقمية" تثير تساؤلات في جامعة أكادير

GMT 21:44 2019 الإثنين ,01 تموز / يوليو

تنتظرك تغييرات في حياتك خلال هذا الشهر
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib