بلدوزر يجتاح الأدب

بلدوزر يجتاح الأدب!

المغرب اليوم -

بلدوزر يجتاح الأدب

سوسن الأبطح
بقلم - سوسن الأبطح

كيف يمكن لشابة صغيرة لم تتجاوز الخامسة والعشرين، وباسم مستعار، تعيش في عاصمة وديعة وهادئة مثل الجزائر، أن تكتب روايات من مئات الصفحات تنضح بالمجرمين والعصابات التي تمارس مختلف أنواع الانتهاكات والشرور، تسافر بأبطالها بين لندن وأميركا وأستراليا، تجوب القارات، وتقنع ملايين القراء، ثم تزحزح الأمير هاري عن عرشه في المكتبات، بزمن قياسي، وتتجاوز مبيعاتها كتابه «البديل»؟
ظاهرة سارة ريفنس، الروائية الجزائرية الشابة التي زلزلت المقاييس وقلبت المعايير، في غفلة من الناشرين والقراء معاً، تستحق التوقف مليئاً. بدأت الصبية النشر كهاوية على موقع «واتباد» الكندي تحت اسم «الفتاة الغامضة». هناك حصد الجزء الأول من روايتها «الرهينة» 8 ملايين قراءة، والجزء الثاني أزيد منهم بمليون على الأقل. كل ذلك كان يحدث في فترة الوباء والحجر وبعدهما. التقطت دار «حلاب» الفرنسية التابعة لـ«هاشيت» الفرصة، وطبعت الكتاب ورقياً. المفاجأة كانت حين اصطفت الطوابير الطوال أمام مكتبة «فناك» في باريس للفوز بتوقيع الكاتبة التي تبيع ملايين النسخ، وأصبحت الكاتبة، الأكثر مبيعاً على الإطلاق بعد أن نفدت عدة طبعات كتابها، متجاوزة بذلك الأمير «هاري» وكل أجهزته الدعائية، وحملاته الإعلانية وفضائحه واعترافاته التي كلفته ما يصعب حصره. فقد ترجمت سارة إلى 9 لغات بحسب ما نشر، رغم عمرها الأدبي الذي لا يتجاوز عدة سنوات، وملأت أخبارها وسائل التواصل.
هذا يتغنى بجملها، وذاك يمثّل مقاطع من قصتها، وآخر يحكي عما أعجبه عندها، وتلك تتحدث عن سحر الشخصيات. حتى صارت سارة كنجوم المطربين الذين تغنى مقاطع من أعمالهم. إنه «فيروس الحب» الذي ينتقل في وسائل التواصل بأسرع من الأوبئة ويحدث ما هو أدهى.
تصنف كتابات سارة ريفنس بـ«الرومانسية السوداء» رغم أنه لا رومانسية فيها ولا قصة حب متماسكة من أي لون.
الحكايا بالمجمل هي عن «إيلا» الشابة التي تتحول إلى رهينة بل قل عبدة، بعد أن تنضم إلى مافيا أو عصابة، طوعاً لأسباب قد تكون المال أو مصلحة أخرى. فثمة ضبابية كبيرة في العديد من جوانب القصة، لكن المهم أن القارئ يتابع محاولاً الفهم. تقع إيلا تحت سطوة (أشر)، الذي ستتراوح علاقتها معه بين حب وبغض، عشق ونفور، فمن الحب ما قتل! وتدور الأحداث في إطار إجرامي وتتحرك الشخصيات بلا منطق عاطفي مفهوم أو اعتبار إنساني واضح. كأنما نحن أمام حسابات لا تمت لطبيعتنا البشرية بصلة، فلا العنف الجسدي وردود الفعل عليه مقنعة، ولا مشاعر (إيلا) واعتباراتها تشبه ما ننتظره منها.
تبني الكاتبة على إثارة المشاعر، وتحفيز التشويق وتطويق القارئ بالمتناقضات. الفحولة عند رأس العصابة (أشر) صاحب الوشوم، مقابل البراءة عند (إيلا) التي تفهم وحشيته وتود أن ترعاه لأنه في النهاية ضحية ماضيه الأسود. الاغتصاب المتكرر والعنف المقزز، مقابل الدموع والآهات والحب والقسمات الندّية. هو أسلوب سارة الذي لا يعتمد على قوة الأسلوب الأدبي بقدر ما يستند إلى الأكشن، والمفاجآت المستمرة، لنرى جميلتنا (إيلا) تنتقل من يد إلى أخرى، وتخضع لنفس الإجرام والانتهاك، دون أن نرى ردود فعل مناسبة لما تتعرض له، وكأنما هي تمتص كل هذا كإسفنجة.
الخطورة ليست في أن الكاتبة قررت أن تترك لمخيلتها العنان، وأن تذهب قصتها حيث تشاء، وهذا قد يكون مشروعاً، وإنما في الطريقة التي تتعامل بها الشخصيات مع الفظائع والبشاعات، وعشق القراء لها.
علاقات مسمومة، شخصيات مريضة، ارتباطات غريبة، وحب يصارع كل أنواع الموبقات، والعقد النفسية؛ للوصول إلى بر الأمان.
ربما هذه الفوضى الوحشية، والسلوكيات الآلية للمخلوقات كأنها تجردت من خلفياتها الإنسانية، هي التي تجذب الشباب وتجعلهم ينتقلون مع الكاتبة إلى مكان آخر، يهربون فيه من حساباتهم المرهقة.
لم تجد سارة الحماس نفسه في بلدها الجزائر، بل ثمة أصوات ترى فيها انقطاعاً عن المسار الأدبي المعهود، وبالطبع حتى في فرنسا، لا نجد احتفاء على الصفحات الأدبية المرموقة. هناك من يتساءل عن خطورة الاستسلام لهكذا كتابات، فيها تسامح مع المغتصبين والمجرمين، وحب للعلاقات الشاذة عاطفياً.
على يناعة سنها، تمكنت سارة من جمع عناصر التشويق، رغم أسلوبها الضعيف وكثرة التكرار والاستطراد. فشخصياتها المعذبة، المقهورة، التي تحاول النهوض من انكساراتها والخلاص بنفسها، هي أكثر جذباً بالطبع من الأبطال المتوازنين، الذين يتعرضون للظلم المجاني.
لسنا في معرض مقارنة هدوء شخصيات كاتب مثل هاروكي موراكامي الأدبية بجنون عالم سارة وعصاباتها الإجرامية التي تبدو وكأنها تهيم على وجهها، لكننا ننتقل من النقيض إلى النقيض برمشة عين، ونحن نعرف أن هذا «الرومانس الروائي» المغرق في الجريمة هو عشق الشباب.
يوم فاز نجيب محفوظ بنوبل، وفرحنا به كأول عربي ينالها، ويرفع الأدب العربي إلى مصاف العالمية، وترجمت رواياته إلى الفرنسية. كنت أمرّ يومياً أمام مكتبة «جوزف جيبير» في سان ميشال، قريباً من الحي اللاتيني وأحزن؛ لأنني لا أرى أحداً (يفلفش) صفحات كتب محفوظ المصطفة على طاولات الرصيف الخارجي للمكتبة. جاءت صغيرة جزائرية، لا نعرف اسمها الحقيقي، ولا خلفياتها، سوى أنها تعمل في صالة رياضية، لتثأر لمحفوظ وتوزع رواياتها كالخبز المنفوخ الخارج للتو ساخناً شهياً من الفرن. هل نفرح أم نحزن؟! على أي حال... عذراً يا نجيب.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

بلدوزر يجتاح الأدب بلدوزر يجتاح الأدب



GMT 13:57 2024 الإثنين ,05 آب / أغسطس

محاصر بين جدران اليأس !

GMT 10:54 2024 الخميس ,21 آذار/ مارس

«مسار إجبارى».. داش وعصام قادمان!!

GMT 10:52 2024 الخميس ,21 آذار/ مارس

الفوازير و«أستيكة» التوك توك

GMT 10:49 2024 الخميس ,21 آذار/ مارس

الأخلاقى والفنى أمامنا

GMT 10:47 2024 الخميس ,21 آذار/ مارس

ذكرى عودة طابا!

أجمل فساتين السهرة التي تألقت بها سيرين عبد النور في 2025

بيروت - المغرب اليوم

GMT 12:16 2025 الإثنين ,08 كانون الأول / ديسمبر

نتنياهو يعلن رغبته في اتفاق يضمن خلو جنوب سوريا من السلاح
المغرب اليوم - نتنياهو يعلن رغبته في اتفاق يضمن خلو جنوب سوريا من السلاح
المغرب اليوم - قوات الدعم السريع تسيطر على منطقة هجليج النفطية وغرب كردفان

GMT 00:46 2025 الإثنين ,08 كانون الأول / ديسمبر

اكتشاف مسار جديد لعلاج سرطان الكبد العدواني
المغرب اليوم - اكتشاف مسار جديد لعلاج سرطان الكبد العدواني

GMT 20:33 2019 الجمعة ,06 أيلول / سبتمبر

تواجهك أمور صعبة في العمل

GMT 13:08 2020 السبت ,26 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج الدلو السبت 26-9-2020

GMT 17:33 2024 الأحد ,08 أيلول / سبتمبر

الجمبسوت الفضفاض لإطلالة راقية في خريف 2024

GMT 15:36 2021 الثلاثاء ,15 حزيران / يونيو

ضجيج

GMT 14:16 2019 الجمعة ,04 تشرين الأول / أكتوبر

مجموعة أزياء Givenchy لربيع وصيف 2020 في أسبوع في باريس

GMT 12:23 2022 الإثنين ,20 حزيران / يونيو

نصائح متنوعة خاصة بديكورات العرس

GMT 02:06 2020 الإثنين ,20 إبريل / نيسان

5 أطعمة تنسف الكرش سريعا

GMT 15:59 2020 الثلاثاء ,28 كانون الثاني / يناير

المدرب الجديد لاتحاد طنجة- الفريق يستحق الأفضل

GMT 03:12 2019 السبت ,14 كانون الأول / ديسمبر

دراسة حديثة تحذر من احتفالات عيد الميلاد والعام الجديد

GMT 06:54 2019 الإثنين ,28 تشرين الأول / أكتوبر

حيازة مخدرات ومؤثرات عقلية تورط شابا بأغادير
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
RUE MOHAMED SMIHA ETG 6 APPT 602 ANG DE TOURS CASABLANCA MOROCCO
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib