قمة الديمقراطية أو استحضار الإيديولوجيا في المباراة الدولية

"قمة الديمقراطية" أو استحضار الإيديولوجيا في المباراة الدولية

المغرب اليوم -

قمة الديمقراطية أو استحضار الإيديولوجيا في المباراة الدولية

عريب الرنتاوي
بقلم :عريب الرنتاوي

الديمقراطية في مأزق...لا أحد يجادل في صحة هذه الفرضية، ومأزق الديمقراطية، عالمي بامتياز، لا يختص بمنطقة دون غيرها، إذ حتى في أعرق الديمقراطيات الغربية، رأينا الديمقراطية، قيماً ومؤسسات وممارسات، تهتز تحت ضربات "العنصرية" المتفاقمة، و"الشعبوية" المنفلتة من كل عقال. 

الشعبيون، غالباً عنصريون، خطابهم "هوياتي"، إن لم يكن هناك "آخر" لاستهدافه، تراهم يجهدون في خلقه، فهو طريقهم لـ"شد عصب" أنصارهم ومحازبيهم...و"الآخر" يمكن أن يكون "المختلف" في اللون أو العرق أو الدين، أو حتى في الجنس، ويمكن أن يكون "المهاجر" و"اللاجئ"...هكذا رأينا عنصريو أوروبا والولايات المتحدة، ينزلون بمعاولهم على رؤوس "المختلفين"، من دون هوادة، ضاربين عرض الحائط، بقيم وتقاليد ومؤسسات، ترسخت وتجذرت على امتداد أزيد من قرنين من الزمان. 

ليس من باب "التطيّر" الإدلاء بتقدير من هذا النوع...دعونا نستحضر "النبوءات المتشائمة" التي سبقت ورافقت الانتخابات الرئاسية الأمريكية، دعونا نستدعي "جورج فلويد" وهجوم الغوغاء المشبع بخطاب الكراهية على مبنى الكونغرس...دعونا نراجع أدبيات اليمين الشعبوي الأوروبي، ضد المهاجرين واللاجئين، دعونا نستذكر الهجمات على المجتمع المدني ومؤسسات القضاء والإعلام التي شنّها رموز هذا اليمين، كل من موقعه وبلغته وفي سياقاته. 

أن ينتصر الرئيس الأمريكي جو بايدن، لفكرة استنهاض الديمقراطية واستنقاذها، فهذا أمرٌ محمود ومطلوب، وأن يقارب هذه المهمة من منظور عالمي (القمة المنتظرة بعد أيام)، فهذا أمرٌ مفهوم كذلك، طالما أننا اتفقنا على "عالمية" المأزق الديمقراطي...لكن ليس هذا سوى بعدٍ واحدٍ، من أبعاد قمة الديمقراطية العالمية المنتظرة، وأحسب أنه ليس أكثرها أهمية وراهنية من وجهة نظر منظميها والداعين لها. 
لا يخفى على أحد، أن الصين أولاً، ثم روسيا في المقام الثاني، هما المستهدفتان بتقسيم العالم إلى "فسطاطين"، واحد "ديمقراطي" وآخر "استبدادي"، ولا يخفى على أحد كذلك، أن سبب الاستهداف إنما يندرج في سياقين: جيو-اقتصادي في الحالة الصينية، وجيو- استراتيجي في الحالة الروسية، مع أن الفصل الكلي بين السياقين، متعذر علمياً، وغير صحيح عملياً. 

نحن إذن، بصدد إضافة "جرعة إيديولوجية" للحرب الباردة الثانية مع الصين وروسيا، تذكر بما كان عليه الحال، زمن الحرب الباردة الأولى، بعد أن ظل التنافس بين الأقطاب الدولي "قليل الدسم" من الناحية الإيديولوجية، منذ سقوط جدار برلين وطيلة سنيّ هيمنة "القطب الواحد" وتفرده على الساحة الدولية...هنا، يمكن القول بقليل من التحفظ، أن "قمة الديمقراطية" إنما تندرج في هذا السياق، سياق الحفاظ على "الهيمنة" الأمريكية، التي قال عنها صاحب "نهاية التاريخ" في مقالة الإيكونوميست، أنها انقضت، ولا مجال لاستعادتها. 

بهذا المعنى، وفي هذا السياق فقط، يمكن فهم "الصحوة الأمريكية" لاستنقاذ الديمقراطية، مع أن الولايات المتحدة، زمن ترامب بخاصة، وحتى في زمن بايدن، وإن بدرجة أقل، لم تعد تولي "الديمقراطية وحقوق الإنسان" أهمية خاصة كمعيار أساسي في علاقاتها الدولية، فهي ترتضي إقامة أوثق العلاقات والتحالفات، مع حكام وعواصم، لم يُعرَفوا يوماً، سوى بسجلهم الاستبدادي وانتهاكاتهم الفظيعة لحقوق الانسان، ولنا في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، "مختبراً" لم يتوقف عن تزويدنا بالأمثلة والتجارب الدالة على صحة ما ذهبنا إليه. 

كنّا سنضع "القمة العالمية" في سياقها الصحيح، كمحاولة لاستنقاذ الديمقراطية، لو أنها بدأت بجهود جبارة لتجفيف منابع "العنصرية" و"الشعبوية" في بلدان المنشأ الغربي، كأن يتداعى قادة الغرب أولاً، لترتيب بيتهم الداخلي، وترميم ما خَرِب سنوات الصعود المقلق لهذا التيارات في الغرب...وكنّا سنفهم أكثر، لو أن القمة وضعت خارج سياق "المباراة الاقتصادية" و"الجيو- استراتيجية مع الصين وروسيا على المسرح الدولي...لكن أما وقد تم إدراجها في هذا السياق، فمن حق المراقبين في قارات العالم المختلفة، التساؤل ما إذا كان للأمر صلة بالحرب على "هوواي" أو "نورد ستريم"، من حق المراقبين أن يروا في القمة طريقاً التفافياً حول "مبادرة الطريق والحزام"، وصعود روسيا على المسرح الدولي. 

لست هنا، أجادل بأن كل من موسكو وبكين، توفران لكل الاستبدادين في العالم، أطواق نجاة وبدائل حين يتعذر عليهم الحصول عليها من الغرب...ولست أختلف مع من يقترح، بأن اللجوء إلى القوتين العالميتين، هو ما يفكر حتى بعض أصدقاء أمريكا وحلفائها، حين تتسع شقة الخلاف بينهم وبينها...لكن السؤال الذي يدهم كل من هم في جنوب الكرة الأرضية: لماذا لا يلجأ الغرب إلى الأدوات الاقتصادية وقوانين السوق، لوقف الزحف الصيني على العالم، ولماذا اللجوء إلى الضغوطات والعقوبات لمنع تقدم "التنين الأصفر"، ولماذا لغة التهديد والوعيد حتى مع الأصدقاء، بمن فيهم الأوروبيين، حين يرفعون مستوى وسوية تبادلاتهم مع بكين أو موسكو؟ 

هي محاولة لاستدخال أدوات ومفردات، من خارج قاموس السوق والمنافسة والتجارة الحرة، وغيرها من أقانيم النظرية الرأسمالية، لضمان التفوق والاحتفاظ بالحصة من كعكة الاقتصاد العالمي ومنع تناقصها المستمر، حتى وإن تطلب ذلك، استعادة "الإيديولوجيا" إلى العلاقات والتبادلات الدولية. 

لو أن الولايات المتحدة والغرب عموماً، يقفزان لتأمين الطلب على مشاريع الطاقة والبنى التحتية في دول العالم الثالث، لما انخرطت معظم هذه الدول، في "مبادرة الطريق والحزام"...ولو أن الولايات المتحدة والغرب عموماً، تتعامل بذات الطريقة، مع "دزينة" من الدول العربية على الأقل، وضع حقوق الانسان والديمقراطية فيها، أسوأ بكثير مما هو عليه في روسيا على سبيل المثال، لقلنا أن الغرب تخطى" حكاية "المعايير المزدوجة"، وبات ينظر للمسألة من زاوية أخلاقية وقيمية عُليا...لكن هذا لا يحدث، فيما الشكوك حول صديقة "الشعارات" والأهداف التي تسبق القمة وتصاحبها، لا تتبدد أبداً. 
ثم، هل نسينا كيف تعامل المجتمع الدولي مع جائحة كورونا؟...وكيف تكشفت الأزمة غير المسبوقة، عن غياب المعايير الإنسانية والأخلاقية مع التعامل قضايا "الكمامات" و"المعقمات" و"أجهزة التنفس" عند بدء الأزمة، ومع اللقاحات بعد تفاقمها؟...ألم تصدر في الغرب ذاته، عشرات المقالات، التي أكدت خسارة الغرب للمعركة الأخلاقية في مواجهة الصين في التعامل مع هذه الجائحة؟...ألم تجد الدول الفقيرة، ضالتها منذ البداية في اللقاح الصيني، (برغم ما يقال عن محدودية فعاليته)، الذي أعيد تصنيعه في عدد منها، في الوقت الذي تمسك فيه الكارتيلات الدوائية الغربية، عن مد يد العون، والتخلي عن "حقوق الملكية الفكرية"، مفضلة جني مليارات الدولارات من الأرباح، على حساب شعوب مستضعفة، لم تتجاوز نسبة من تلقوا اللقاح الإثنين بالمئة، حتى يومنا الحاضر؟ 

مأزق الديمقراطية في العالم، له أسباب أشد تعقيداً وتشابكاً، من أن تختصر بواحدٍ منها،  ومن الإفراط في السذاجة والتبسيط، الاكتفاء بتحميل الصين وروسيا، وزر التقهقر الذي أصابها في السنوات الأخيرة...مأزق الديمقراطية عالمياً، يكمن أساساً في التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي ضربت حواضرها في السنوات الأخيرة، والتبدل الكبير الذي طرأ على البنى "الديموغرافية – الاجتماعية" لهذه الحواضر، وتفاقم الأدوار التي تلعبها الكارتيلات العملاقة في ميادين السلاح والطاقة والمعلوماتية، في صنع السياستين الداخلية والخارجية لهذه الحواضر، والتي تمتد تأثيراتها الضارة إلى دول العالم الثالث على اتساعه. 

روسيا والصين، ليستا أبداً في موقع تحفيز الديمقراطية واحترام حقوق الانسان، وكما دللت تجارب البلدين وعلاقاتهما الدولية، فهما تفضلان التعامل مع "الزعيم الفرد" و"القائد الملهم" على أن تخوضا غمار التعامل مع نظام ديمقراطي تعددي...ولكن من قال إن كثيرٍ من الديكتاتوريين في منطقتنا والعالم، ما كانوا ليبقوا على سدة عروشهم لأسبوعين اثنين، لولا الحماية الأمريكية والتغطية الأوروبية؟ ألم يصرح دونالد ترامب محقاً، ونادراً ما يكون محقاً، بهذا الشأن؟ 

الديمقراطية بحاجة لمن يستنقذها، والرأسمالية بحاجة لمن "يؤنسنها"، وخط البداية على المسارين، يبدأ من الحواضر الغربية ذاتها، أما بقية الأسباب والعوامل المُفضية إلى "المأزق"، فتأتي في المرتبة الثانية. 

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

قمة الديمقراطية أو استحضار الإيديولوجيا في المباراة الدولية قمة الديمقراطية أو استحضار الإيديولوجيا في المباراة الدولية



GMT 02:13 2024 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

نسور استراتيجية

GMT 02:12 2024 الإثنين ,22 إبريل / نيسان

من مونيكا إلى ستورمي

GMT 02:08 2024 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

الذكاء الاصطناعي يتحدى إيمانويل كانط

GMT 02:04 2024 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

زوجة واحدة لا تكفي!

GMT 02:01 2024 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

تدليل أمريكي جديد لإسرائيل

أيقونة الجمال كارمن بصيبص تنضم لعائلة "Bulgari" العريقة

القاهرة - المغرب اليوم
المغرب اليوم - جراحون يزرعون للمرة الثانية كلية خنزير لمريض حي

GMT 06:51 2024 الإثنين ,22 إبريل / نيسان

أفضل أنواع الستائر الصيفية لإبعاد حرارة الشمس

GMT 17:53 2024 الثلاثاء ,09 إبريل / نيسان

محمد صلاح يضيف لرصيده 3 أرقام قياسية جديدة

GMT 13:50 2012 الخميس ,08 تشرين الثاني / نوفمبر

البيئة النظيفة.. من حقوق المواطنة

GMT 21:44 2021 الأحد ,14 تشرين الثاني / نوفمبر

أشهر الوجهات السياحية المشمسة في الشتاء

GMT 00:48 2021 الإثنين ,04 تشرين الأول / أكتوبر

إسبانيول يفاجئ ريال مدريد بخسارة مؤلمة

GMT 00:06 2021 الأحد ,03 تشرين الأول / أكتوبر

مباراة "قناة رقمية" تثير تساؤلات في جامعة أكادير

GMT 21:44 2019 الإثنين ,01 تموز / يوليو

تنتظرك تغييرات في حياتك خلال هذا الشهر
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib