جيش السودان لا جيش «الكيزان»

جيش السودان... لا جيش «الكيزان»!

المغرب اليوم -

جيش السودان لا جيش «الكيزان»

بقلم - عثمان ميرغني

يخوض السودان حربين متزامنتين: واحدة على الأرض، وأخرى لا تقل خطورة تُدار عبر الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي. وفي خضم هاتين الحربين، تتكاثر السرديات المضللة التي تستهدف الجيش، لإضعافه في الميدان بحملات التشكيك في كفاءته والتقليل من شأن انتصاراته، مع تضخيم أي انتكاسة عسكرية يواجهها، وذلك بالتوازي مع الحملات الرامية لتصويره ككيان آيديولوجي، وإلغاء أي فكرة عنه كمؤسسة وطنية تُشكّل عمود الدولة الفقري.

أبرز أدوات هذه الحملات هي اتِّباع سياسة الإغراق بتكرار السرديات نفسها حتى تبدو كأنها حقائق مسلَّم بها، وعلى رأسها سردية «جيش الكيزان»، أو الادعاء أن المؤسسة العسكرية لم تستقبل ضباطاً غير منتمين للإسلاميين منذ عام 1989. كما تُكرر عمداً مفردتَي «طرفي النزاع» التي تساوي بين الجيش -بوصفه مؤسسة دولة- وبين مجموعة مسلحة، أو يُستخدم خطاب «إصلاح الجيش» لتبرير مشاريع سياسية، أو تمرير مخططات لإعادة هندسته لتحقيق أهداف خفية تصل إلى حد ما يروَّج له عن «جيش جديد». فقد تردد مثل هذا الكلام خافتاً في الفترة الانتقالية بعد ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018، ثم سمعناه بوضوح حين صرح قائد «الدعم السريع» بعد السيطرة على الفاشر، بأن الجيش «انتهى» وأن المطلوب الآن «جيش جديد».

السؤال المحيِّر هو: لماذا تتصاعد حملات التشويش ضد الجيش في هذا التوقيت الذي يخوض فيه حرباً يراها كثيرون وجودية لحماية بلد مستهدف بمخطط متشعب الأبعاد والأطراف؟

الحقيقة التي لا يمكن القفز فوقها أن أي دولة انهار جيشها أو جرى تفكيكه -تحت أي ذريعة- انزلقت سريعاً نحو الفوضى. وفي الحالة السودانية، يبقى الجيش اليوم هو الكيان الذي يدافع عن البلد، والسد الأخير الذي يَحول دون اكتمال سيناريوهات السيطرة على مقدراته أو تفتيته. وعلى الرغم من كل حملات التضليل، فهو مؤسسة تضم أبناء الوطن من مختلف الاتجاهات الفكرية، ومن مختلف أطياف المجتمع ومكوناته... فيه أنصار واتحاديون ومستقلون، وفيه بالتأكيد إسلاميون؛ وكذلك فيه من أبناء الغرب والشرق، والوسط، والشمال والجنوب، شأنه شأن أي مؤسسة كبيرة تعكس التنوع السياسي والاجتماعي في البلاد. مؤسسة كبيرة كهذه يصعب دمغها بلون سياسي واحد، أو مكون عِرقيّ، أو قَبَليّ أو جهَوِيّ محدَّد.

هناك حقيقة أخرى توضح أمراً مهماً، وهي أن ثورة ديسمبر دعت صراحةً إلى حل «قوات الدعم السريع» بترديد شعار «الجنجويد ينحل»، لكنها لم تطالب بحل الجيش أو إعادة هندسته، بل بعودته إلى الثكنات وتفرغه لدوره الوطني في حماية السودان وحدوده، والدفاع عن شعبه، وهو مطلب منطقي لدولة تسعى لبناء مؤسسات قوية، لا لتفكيكها.

الأمر الذي يكشف عن ازدواجية المواقف واختلاط المعايير هو أن بعض القوى المدنية والسياسية التي تتصدر الآن الحملة على الجيش وتتهمه بأنه «جيش الكيزان»، هي ذاتها التي خرجت عن خط الثورة ومطلب «الجيش للثكنات» فتحالفت مع قيادته وأدخلتها في قسمة السلطة بعد «ثورة ديسمبر»، لكي تحصل هي ذاتها على مقاعد في الحكومة الانتقالية، في مخالفة صريحة للوثيقة الدستورية وتعهدات هذه القوى بأنها لن تحصل على مقاعد وزارية، وأن الحكومة الانتقالية ستكون حكومة كفاءات مهنية غير حزبية.

اليوم أيضاً نسمع بعض هذه القوى تُعلي الصوت في الهجوم على الجيش ودمغه بـ«جيش الكيزان»، فيما يخفت صوتها عن المطالبة بتفكيك «قوات الدعم السريع» بعد كل ما ارتكبته من فظائع، أو عن اتهامها بأنها «جماعة الكيزان» على الرغم من وجود عناصر كثيرة معروفة بارتباطها بالنظام السابق ضمن صفوفها.

لقد أصبح الهجوم على الجيش جزءاً من حالة الاستقطاب التي غذّتها الحرب، بل دخلت أطراف خارجية على خطها، كلٌّ وفق حساباته ومصالحه. غير أن هذا الخطاب يبقى بعيداً عن نبض أغلبية السودانيين في الداخل، الذين يجدون في الجيش الحماية الوحيدة المتبقية لهم، ويهربون إلى مناطقه كلما اجتاحت «قوات الدعم السريع» أي مدينة أو قرية.

إصرار بعض الأطراف على تصفية حسابات مع الجيش بهدف إضعافه؛ ظناً منها أن ذلك سيبعده عن الساحة السياسية، يجافي الواقع لأنها بما تفعله تُبقي الجيش في دائرة معترك السياسة وتجاذباتها. الطريق الأمثل لإبعاد الجيش عن السياسة هو أن تبتعد القوى السياسية عن تدخلاتها فيه، أو محاولات الاستقواء به، أو استخدامه لتنفيذ انقلابات عسكرية. فقد دفعت جميع القوى السياسية، بدرجات متفاوتة، بالجيش إلى قلب تنافساتها، ودفع الجميع الثمن.

ما يحتاج إليه السودان اليوم ليس جيشاً «جديداً» أو «مؤدلجاً»، بل يحتاج إلى جيش مهني وطني واحد، يحتكر السلاح لصالح الدولة وحدها، ويبتعد عن حروب السياسة، فيما تبتعد القوى السياسية عنه بالقدر نفسه. ولا يمكن حماية هذا المسار من دون وعي يحاصر التضليل، ويدرك أن تفكيك المؤسسة العسكرية، بالخطاب أو بالفعل، هو تفكيك للوطن نفسه في هذا المنعطف الخطير.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

جيش السودان لا جيش «الكيزان» جيش السودان لا جيش «الكيزان»



GMT 08:09 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

جرأة نواف سلام ... في استقبال هنيبعل !

GMT 08:08 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

الشيخان

GMT 08:07 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

مستقبل الردع الأميركي تقرره روسيا في أوكرانيا

GMT 08:06 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

لماذا الهُويّة الخليجية؟

GMT 08:00 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

هل تعود مجوهرات اللوفر المسروقة؟

GMT 08:00 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

البابا ليو: تعلموا من لبنان!

GMT 07:59 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

الطبع الأميركي يغلب التطبع!

GMT 07:58 2025 الخميس ,04 كانون الأول / ديسمبر

ترامب والحرب

أجمل إطلالات نانسي عجرم المعدنية اللامعة في 2025

بيروت - المغرب اليوم
المغرب اليوم - مكالمة سرية تكشف تحذيرات ماكرون من خيانة أمريكا لأوكرانيا

GMT 02:31 2025 الجمعة ,05 كانون الأول / ديسمبر

دراسة جديدة تكشف العلاقة بين الحب والسمنة
المغرب اليوم - دراسة جديدة تكشف العلاقة بين الحب والسمنة

GMT 02:15 2025 الجمعة ,05 كانون الأول / ديسمبر

ياسمين عبدالعزيز تفكر بالزواج مجددًا بعد طلاقها
المغرب اليوم - ياسمين عبدالعزيز تفكر بالزواج مجددًا بعد طلاقها

GMT 06:16 2025 الإثنين ,03 تشرين الثاني / نوفمبر

سعر الذهب في المغرب اليوم الإثنين 03 نوفمبر/تشرين الثاني 2025

GMT 21:44 2019 الإثنين ,01 تموز / يوليو

تنتظرك تغييرات في حياتك خلال هذا الشهر

GMT 16:06 2020 الإثنين ,01 حزيران / يونيو

لا تتهوّر في اتخاذ قرار أو توقيع عقد

GMT 18:33 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تضطر إلى اتخاذ قرارات حاسمة

GMT 20:18 2021 الأربعاء ,27 كانون الثاني / يناير

وفاة خالة الشقيقتين المغربيتين صفاء وهناء

GMT 14:36 2019 الإثنين ,10 حزيران / يونيو

الرئيس اللبناني ميشال عون يلتقي وفدًا أميركيًا

GMT 12:29 2019 الخميس ,30 أيار / مايو

مجلس الحكومة يعيد تنظيم مسرح محمد الخامس

GMT 05:01 2019 الأربعاء ,10 إبريل / نيسان

دافنشي كان يكتب بيديه الاثنتين بكفاءة

GMT 23:51 2018 الأربعاء ,17 كانون الثاني / يناير

رامز جلال يسخر من غادة عبد الرازق والأخيرة تتوعد له

GMT 12:50 2018 الإثنين ,08 كانون الثاني / يناير

22لاعبًا في لائحة فارس النخيل استعدادًا إلى مواجهة الوداد

GMT 07:54 2012 الجمعة ,22 حزيران / يونيو

ملك إسبانيا يخفض راتبه بنسبة 7.1%

GMT 04:51 2017 الأربعاء ,19 إبريل / نيسان

مصر تتصدر العرب فى الحرب على الفتنة.. المصنعة!

GMT 15:08 2015 الإثنين ,12 تشرين الأول / أكتوبر

هيمنة المتشددين على المجتمع الطلابي في جامعة وستمنستر
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
RUE MOHAMED SMIHA ETG 6 APPT 602 ANG DE TOURS CASABLANCA MOROCCO
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib