مقتل الديموغرافيا

مقتل الديموغرافيا

المغرب اليوم -

مقتل الديموغرافيا

سوسن الأبطح
بقلم : سوسن الأبطح

كادت دولُ العالمِ الثالث تعقّم نساءَها، بعد أن ربطَ الاقتصاديون بين كثرةِ الإنجاب وتفشّي الفقر. وبينما لا تزال حبوبُ منعِ الحمل إحدى أهم أدوات هيئات الأمم المتحدة الاجتماعية لمكافحة التَّخلف في الدول المسكينة، يعاني الغربُ من كارثة انخفاض النسل بشكل درامي سيؤثر على كلّ مناحي الحياة.

وبعد أن وجدت أوروبا وأميركا ضالتَهما، لحل أزمتِهما الديموغرافية بفتح الأبواب للمهاجرين، ها هما تكتشفان أنَّ العرقَ الأبيض بات مهدداً في عقر داره، وعليهما إعادة غلق الأبواب بسرعة.

واحدةٌ من بنود ترمب في استراتيجيته للأمن القومي الأميركي التي نشرها مؤخراً، هي الحد من الهجرة إلى أوروبا؛ لأنَّها تتعرَّض لمخاطرَ حضارية، وبعد عشرين عاماً سيصبح لها وجهٌ آخرُ لا نعرفه. وهذا صحيح.

لكنَّ الأمرَ ليس بالسهولة التي يطرحها الرئيس ترمب، وهو يتمنَّى أن يأتيه نمساويون ونرويجيون بدل الصوماليين؛ لأنَّ النمسا والنرويج من أكثر الدول معاناة من نقص الولادات، فمن أين نأتيه بالشقر والشقراوات؟ ففي أكثر الدراسات تفاؤلاً، لم يعودوا يشكّلون أكثر من ستين في المائة من الأميركيين، حتى إنه بات يريد استعادةَ من صدّرهم إلى جنوب أفريقيا ذات يوم.

مليون ونصف المليون مهاجر غادروا أميركا هذا العام. والاستمرار في هذه السياسة سيقضي على 15 مليون وظيفة بحلول عام 2035، بحسب الأميركيين أنفسِهم، فيما المهاجرون غير الشرعيين الذين يراد التَّخلصُ منهم، وصلَ عددُهم إلى 14 مليوناً.

يفترض أن ينجبَ الوالدان طفلين على الأقل للحفاظ على استقرار عدد سكان أوروبا، لكن معدلاتِ المواليد الحالية بالكاد تتجاوز طفلاً واحداً. فهل سيتمكَّن جيلُ الآباء الجدد في ظل الأزمة الاقتصادية من قلب الموازين؟

العام المنصرم شهدَ أدنى معدلات ولادات مسجلة في أوروبا على الإطلاق، في ظاهرة لم تحدث منذ نهاية الحرب العالمية الأولى. حتى فرنسا السخية في مواليدها، تراجعت أرقامها بشدة.

وما يثير القلق أنَّ التدهور الحالي يأتي في ظلّ تشريع أبواب الهجرة، وقبل الاستنفار ضد الوافدين؛ أي أنَّ عدد الذين تم استقبالهم، رغم أن التذمر منهم لم يكن كافياً، وبالأرقام، يتوجب استقدام المزيد. أما ما يطلبه الرئيس ترمب، والذي يتم العمل عليه، فهو فرملة تامة، وتشجيع وصول الأحزاب اليمينية المتطرفة إلى السلطة التي ستنتهج أسلوبه الانغلاقي، وهذا عواقبه وخيمة.

والحالة هذه، يجد الغرب نفسَه أمام خيارين، بحسب ما يقوله اقتصاديون: إمَّا القبول بتغيير وجه الثقافة لإنعاش الحيوية الاجتماعية، ودفع عجلة الإنتاج، وإما قفل الأبواب والخضوع لشيخوخة تدريجية حتى الذبول.

اليدُ العاملة تنخفض سنوياً بمقدار مليون شخص في أوروبا، وخلال ربع قرن سيفقد الاتحاد 25 مليون عامل. بحسب تقرير «بروجيل» الذي صدر في مارس (آذار) 2025، بعنوان «الفجوة الديموغرافية»، فإنَّ مقابل تناقص عدد السكان في سن العمل في 22 دولة من أصل 27 دولة في الاتحاد الأوروبي، ستتضاعف نسبة من تبلغ أعمارهم 85 عاماً، مما سيضرب في مقتل أنظمة الرعاية الصحية والمعاشات التقاعدية، ويطيح بالقدرة على الدفاع العسكري؛ إذ من الآن لا تتوافر الأعداد للتجنيد في الجيوش، رغم رغبة أوروبا في القتال. وتبعاً لدراسة لمؤسسة «غالوب»، فإن 32 في المائة فقط من الشباب الأوروبي على استعداد للانخراط في أي عمل عسكري قد يطرأ.

في المهن المدنية الأمر ليس أفضل حالاً، تحدثت المفوضية الأوروبية عن نقص في المهارات يطال 42 مهنة، بينها تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، والرعاية الصحية، والبناء، والنقل. وأكثر من نصف الشركات، لا يعثر على الكفاءات المطلوبة لتسيير أعمالها، ومن بينها شركات الصناعات العسكرية.

أوروبا تعاني من وجود ما يقارب 4 ملايين وظيفة شاغرة لا تجد من يشغلها. ففي ألمانيا مثلاً، رغم استقبال العدد الهائل من السوريين، لا يزال أكثر من مليون وظيفة تنتظر، ونصف هذا العدد في فرنسا.

الكلام على كارثة استقبال المهاجرين في الغرب يحجب مأساة ديموغرافية عدم حلّها هو انتحار جدّي، وليس كلاماً مجازياً. ومع ذلك فإنَّ طرح موضوع شديد الحساسية كهذا، لا يزال خجولاً، وثمة من يريد تغطية الشمس بغربال.

أحد أكثر المتنبّهين للفخ الديموغرافي هو المفكر الفرنسي إيمانويل تود، الذي، مع شهرة مؤلفاته وترجمتها إلى مختلف اللغات، واستقباله على كبريات المنابر العالمية، يفضّل كتم صوته في بلاده؛ لأنَّ كلامه حول خطر انهيار القيم العائلية والدينية، والأزمة الاقتصادية التي أدَّت جميعها إلى كبح الإنجاب وذبول المجتمعات الغربية، وإفقادها وزنها الصناعي والجيوسياسي، هو مما يوجع ويزعج.

لكن من ظريف ما يقوله تود، أنَّه في كتابه الأخير الشهير جداً «انهيار الغرب» درس روسيا وأميركا وأوروبا، ولم يدرسِ الصينَ؛ لسبب بسيط هو أنَّه لم يتوقَّع صعودها المفاجئ بهذه السرعة، بسبب ضعف الولادات، وتراجع الديموغرافيا.

والسؤال الكبير الذي بات يؤرق الباحثين: هل يمكن أن يكون تشغيل المصانع بالروبوتات على الطريقة الصينية، وبالاستغناء عن البشر، هو المخرج الوحيد من هذه المأساة الغربية الطاحنة؟

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مقتل الديموغرافيا مقتل الديموغرافيا



GMT 06:15 2025 الخميس ,25 كانون الأول / ديسمبر

ماذا تبقى من ذكرى الاستقلال في ليبيا؟

GMT 05:51 2025 الخميس ,25 كانون الأول / ديسمبر

فتنة الأهرامات المصرية!

GMT 05:49 2025 الخميس ,25 كانون الأول / ديسمبر

لماذا أثارت المبادرة السودانية الجدل؟

GMT 05:46 2025 الخميس ,25 كانون الأول / ديسمبر

هل انتهى السلام وحان عصر الحرب؟!

GMT 05:42 2025 الخميس ,25 كانون الأول / ديسمبر

حكومة العالم

أجمل فساتين السهرة التي تألقت بها سيرين عبد النور في 2025

بيروت - المغرب اليوم

GMT 02:23 1970 الخميس ,25 كانون الأول / ديسمبر

ويتكوف يعلن توقيت انطلاق المرحلة الثانية من اتفاق غزة
المغرب اليوم - ويتكوف يعلن توقيت انطلاق المرحلة الثانية من اتفاق غزة

GMT 13:59 2025 الخميس ,18 كانون الأول / ديسمبر

انستغرام يطلق تطبيق Reels مخصص للتليفزيون لأول مرة

GMT 14:33 2020 الأربعاء ,01 كانون الثاني / يناير

تتيح أمامك بداية العام فرصاً جديدة لشراكة محتملة

GMT 18:37 2020 الإثنين ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

ابتعد عن النقاش والجدال لتخطي الأمور وتجنب الأخطار

GMT 21:04 2022 الثلاثاء ,13 كانون الأول / ديسمبر

"طائرة الزمالك" يهزم المنيا 0/3 في دوري المرتبط

GMT 11:54 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

أخر صيحات الموضة لموسمي خريف وشتاء 2024-2025

GMT 01:34 2024 السبت ,13 إبريل / نيسان

بلقيس فتحي تطرح أحدث أغانيها "أحاول أغير"

GMT 06:31 2021 الثلاثاء ,26 تشرين الأول / أكتوبر

مدرب ليستر سيتي يدخل دائرة اهتمامات إدارة مانشستر يونايتد

GMT 06:26 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج الثور الجمعة 30 تشرين الثاني / أكتوبر 2020
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
RUE MOHAMED SMIHA ETG 6 APPT 602 ANG DE TOURS CASABLANCA MOROCCO
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib