هاوية من دون حافة

هاوية من دون حافة

المغرب اليوم -

هاوية من دون حافة

عبد الرحمن شلقم
بقلم - عبد الرحمن شلقم

الحرب التي تخوضها روسيا في أوكرانيا، منذ أكثر من سنة، تقود العالم إلى مصير مجهول مخيف. في الرابع والعشرين من فبراير (شباط) السنة الماضية، شنت روسيا على أوكرانيا هجوماً، أطلقت عليه عملية عسكرية خاصة. دافعها، وفقاً للإعلان الروسي الذي سبق العملية، الحيلولة دون تمركز حلف شمال الأطلسي على حدودها الغربية، بحجة تقدم أوكرانيا بطلب للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو. وأعلن الكرملين أن من يحكمون كييف هم نازيون معادون لروسيا، وأن هدف العملية العسكرية الروسية هو اقتلاع حكام كييف وتنصيب حكومة أخرى لتحل محل الحكام الذين وصفتهم بالنازيين الجدد. قبل ذلك احتلت روسيا شبه جزيرة القرم التابعة لأوكرانيا وضمتها إلى أراضيها سنة 2014. وأعلنت في سبتمبر (أيلول) الماضي ضمها 4 مقاطعات أخرى، هي: لوغانسك ودونيتسك وزابوريجيا وخيرسون. لكن لم تتمكن القوات الروسية من السيطرة الكاملة على كل تلك المناطق.

في بداية العمليات العسكرية، قدّرت روسيا أن تحقيق ما استهدفته لن يستغرق سوى أسابيع. القوة العسكرية الروسية الضاربة لن تستطيع القوة الأوكرانية الوقوف في وجهها أكثر من أيام. هكذا كانت التقديرات الروسية. المبرر الذي ساقته موسكو أنها لن تقبل بأن يكون لحلف الناتو وجود على حدودها، لكن أولى نتائج تلك العملية كان انضمام جارة روسيا فنلندا لحلف الناتو، ولها أكثر من ألف كيلومتر تحدّها معها. منذ أول إطلاقة قام حلف الناتو بشبه تعبئة كاملة لمواجهة روسيا بتقديم دعم عسكريّ وماليّ سخيّ، بل مُبالَغ فيه للقوات الأوكرانية، وفرض الغرب عقوبات واسعة على الدولة الروسية.

السؤال الكبير، بعد مرور قرابة سنة ونصف السنة على بداية الهجوم الروسي، ألم تحسب روسيا رد الفعل الغربي على عمليتها العسكرية الخاصة، أم أن الموقف الغربي اللين من استيلاء روسيا على شبه جزيرة القرم، جعل روسيا تستهين برد الفعل الغربي على قفزتها العسكرية على أراضي أوكرانيا؟ اليوم أصبحت الحرب مواجهة عسكرية وسياسية شاملة بين دول حلف الناتو وروسيا، وأوكرانيا هي مجرد الأرض التي تدور عليها المعركة.

تراجعت روسيا عمّا أعلنته في البداية، ولم تعد تعلن إصرارها على تغيير نظام كييف، لكنها لم تتراجع عن ضم ما استولت عليه من الأراضي الأوكرانية. هل أخطأت روسيا في حساباتها منذ البداية، ولم تقرأ حجم رد الفعل الأوروبي والأميركي؟ تدفق السلاح الغربي الحديث من جميع الأنواع إلى أوكرانيا، وسُخرت الأقمار الصناعية والقدرات الاستخباراتية، والتفت حبال الحصار والعقوبات الغربية على روسيا. لقد وصل الطرفان إلى خط عدم التراجع. روسيا، وتحديداً الرئيس بوتين، ليس بإمكانه الانسحاب من كامل الأراضي الأوكرانية التي استولى عليها وبخاصة شبه جزيرة القرم بسهولة، لأن ذلك يعني نهاية وجوده في قصر الكرملين، بل يهدد بتفكك دولة الاتحاد الروسي. دول حلف الناتو التي قدمت جبالاً من السلاح ومليارات الدولارات لأوكرانيا وعبّأت الرأي العام في بلدانها ضد الهجوم الروسي، وفرضت عقوبات ثقيلة على روسيا، من المستحيل أن تتراجع وأن تقبل بغير انسحاب روسي كامل من كل الأراضي الأوكرانية، بما فيها شبه جزيرة القرم. نحن أمام معادلة صفرية، تقود إلى قاعدة الغالب والمغلوب في هذه الحرب العالمية النوعية، أي منتصر ومهزوم، كما حدث في كل الحروب الدولية، التي سُميت بـ«العالمية». العالم كله في مواجهة احتقان مرعب. نعم مرعب إلى أبعد الحدود. لقد لوَّح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مباشرةً أكثر من مرة، وبلسان مساعديه، إلى إمكانية استعمال سلاح نووي تكتيكي، ولكن هل يكرر نفس حساباته الأولى عندما بدأ العملية العسكرية التي سمّاها خاصة، من دون قراءة رد الفعل الغربي، ويندفع إلى استعمال ما سمّاه بالسلاح النووي التكتيكي؟ في سنوات الحرب الباردة التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية، عاش العالم لحظات بالغة الخطورة، عندما تواجه الشرق والغرب في حرب الكوريتين وحرب فيتنام وأزمة خليج الخنازير بسبب نصب الاتحاد السوفياتي صواريخ في كوبا، وأزمة سور برلين. أطلق على كل ذلك التصعيد، سياسة حافة الهاوية، أي وقوف القوى العظمى على شفا حرب عالمية شاملة. كانت التسويات، والتنازلات المتبادلة، وإبداع الحلول الوسط، هي التي تصنع مسافات السلام، وتوسع حافة الهاوية التي تُبعد الجميع عن الوقوع في حفرتها. اليوم نحن أمام مواجهة مختلفة بين ما بقي مما كان يسمى بالشرق، وهي روسيا والحلف الغربي في معركة تدور فوق أرض أوكرانية، لكنها مواجهة كسر عظام وإرادات، ولن يقبل أي طرف فيها برفع راية الاستسلام.

في عقود مضت، كان في العالم قيادات وزعامات وُلدت من رحم خضمٍّ سياسي نوعي. امتلكت الدهاء والحكمة وفن المناورة، والقدرة على إبداع الحلول، لتحقيق ما سمّاه الرئيس الفرنسي ديغول، بسلام الشجعان، عندما قرر الرضوخ لإرادة الشعب الجزائري، وانسحب من الجزائر، رغم معارضة ما عُرف بالأقدام السود، من الفرنسيين المستوطنين الجزائر.

روبرت ماكنمارا، وزير دفاع الرئيس الأميركي جون كينيدي، قضى أياماً وليالي مع الرئيس كينيدي في البيت الأبيض في أثناء أزمة الصواريخ السوفياتية في كوبا. لم يفارقه مطلقاً طيلة تلك الأزمة، ينسق مع كل حلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين، إلى أن تم التوصل إلى تسوية لحل المشكلة بسحب الصواريخ السوفياتية من كوبا، وتحريك صواريخ حلف الناتو في تركيا بعيداً عن الحدود السوفياتية. الزعيم السوفياتي حينئذ نيكيتا خورتشوف، الذي عُرف بالانفعال والاندفاع، جنح إلى حل جنّب بلاده والعالم السقوط في كارثة الهاوية. الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون، ووزير خارجيته ومستشاره للأمن القومي هنري كيسنجر، قبلا بالانسحاب من فيتنام، والتسليم بوحدة فيتنام تحت حكم شيوعي، بعد حرب كلّفت الولايات المتحدة آلاف الجنود ومليارات الدولارات. أمن الشعوب، وتجنيب العالم الكوارث، وحفظ بيضة الأوطان، أسمى من الكبرياء الزعامية والشوفينية القومية. استمرار حرب أوكرانيا يجعل العالم أمام خطر حقيقي غير مسبوق. آلاف الرؤوس النووية التي تمتلكها روسيا وأميركا وفرنسا وبريطانيا، وكلها أطراف في هذه الحرب العالمية، تهدد بدفع العالم إلى هاوية نهايات لا تُبقي ولا تذر. الأمل أن تكون العقول التي في الرؤوس، أقوى من جنون الرؤوس النووية التي في الصواريخ.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

هاوية من دون حافة هاوية من دون حافة



GMT 02:13 2024 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

نسور استراتيجية

GMT 02:12 2024 الإثنين ,22 إبريل / نيسان

من مونيكا إلى ستورمي

GMT 02:08 2024 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

الذكاء الاصطناعي يتحدى إيمانويل كانط

GMT 02:04 2024 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

زوجة واحدة لا تكفي!

GMT 02:01 2024 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

تدليل أمريكي جديد لإسرائيل

نجوى كرم تتألق في إطلالات باللون الأحمر القوي

القاهرة - المغرب اليوم

GMT 20:18 2024 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

بنسعيد يبحث ملف الزليج المغربي بجنيف
المغرب اليوم - بنسعيد يبحث ملف الزليج المغربي بجنيف

GMT 10:02 2024 الثلاثاء ,23 إبريل / نيسان

عمرو يوسف يتحدث عن "شِقو" يكشف سراً عن كندة علوش
المغرب اليوم - عمرو يوسف يتحدث عن

GMT 18:14 2020 السبت ,11 تموز / يوليو

مخرج فيلم"ماد ماكس" يحطم قلب تشارليز ثيرون

GMT 04:24 2020 الأربعاء ,15 كانون الثاني / يناير

مقطع ويسلان بمكناس .. منعرج الموت يتربص بأرواح السائقين

GMT 08:29 2018 الخميس ,01 شباط / فبراير

عطر كارفن المصنوع من زهر البرتقال لطيف للرجال

GMT 18:55 2023 الثلاثاء ,28 شباط / فبراير

أجدد صيحات الأحذية من أسبوع الموضة في ميلانو

GMT 22:19 2023 الإثنين ,09 كانون الثاني / يناير

مقاييس الأمطارالمسجلة خلال 24 ساعة في المغرب

GMT 18:01 2022 الخميس ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

"لامبورغيني" تفتتح صالة مؤقّتة في الدوحة حتى منتصف ديسمبر

GMT 03:55 2022 الثلاثاء ,08 تشرين الثاني / نوفمبر

فريق ليكسوس العرائش يفوز خارج ميدانه على الفتح الرياضي بـ (88-65)

GMT 09:06 2021 الأربعاء ,10 تشرين الثاني / نوفمبر

نادي الرجاء الرياضي يمنح المدرب لسعد الشابي هدية بعد إقالته
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib