بول بوت جنون الإبادة الذي لا يغيب

بول بوت... جنون الإبادة الذي لا يغيب

المغرب اليوم -

بول بوت جنون الإبادة الذي لا يغيب

عبد الرحمن شلقم
بقلم : عبد الرحمن شلقم

كان اسمه سالوت، قبل أن يقبض على رقبة شعب بلاد اسمها كمبوديا، ويمنح نفسه اسماً جديداً، هو بول بوت. شهد العالم قبله وبعده طغاة ولغوا في دماء البشر، لكن بول بوت كان وسيبقى، المبدع الأكبر لصناعة الجحيم الأرضي الرهيب. كُتب عنه الكثير بمختلف اللغات، وما زال حاضراً في الضمير والذاكرة الإنسانية. قائمة الطغاة التي ستبقى مرسومة على جدارية التاريخ، لا ينالها غبار الزمان، ولكن زعيم «الخمير الحمر» الكمبودي، بول بوت هو الاسم الصاعق الذي لا يغادر رأس القائمة. وصفه أحد الكتاب بالمعلّم الأكبر في مدرسة جنون الدم، وكل من سبقه أو لحقه من الطغاة، ليسوا سوى طلبة صغار في مدرسته التي لن تقفل. من الإمبراطور الروماني نيرون إلى هتلر، وستالين، وموسوليني، وتشاوسيسكو، وعيدي أمين وبوكاسا، وغيرهم من الطغاة الدمويين، يمكن وصفهم جميعاً بالتلاميذ الصغار في مدرسته. الطاغية شخصية كانت منذ القدم مادة لدراسات واسعة وعميقة من الفلاسفة والمفكرين وعلماء النفس. تشوه وخلل نفسي يبدآن مبكراً في تكوين كل طاغية. العنف العائلي والفقر والفشل والخوف والاحتقار، كل ذلك يزرع بذور كراهية الآخرين؛ فكل إنسان يعدّه ذلك الشخص مشروع عدو له، وتكبر في داخله مع الزمن شحنة العنف والانتقام من الجميع.

بول بوت الذي قتل ثلث شعبه، أبدع في صناعة الموت أساليب غير مسبوقة. الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية، التي تمر بها الأوطان، تشكل المخاض الخاص الذي يلد الطاغية.

في الحالة الكمبودية، كانت المنطقة الآسيوية تعيش حقبة اضطراب ساخن. استعمار فرنسي وحروب أهلية وإقليمية ودولية. كمبوديا كانت تحت الاحتلال الفرنسي وبها أسرة سيهانوك الملكية. وجلس على عرشها الشاب المتعلم الفنان الممثل نوردوم سيهانوك. اشتعلت الحروب في كوريا وفيتنام، وبرزت أحزاب لعبت أدواراً مختلفة، وكان للأحزاب الشيوعية وجود في بعض البلدان.

الاختلافات الآيديولوجية والسياسية بين الاتحاد السوفياتي والصين الشعبية فعلت فعلها في الأحزاب الشيوعية في المنطقة. الحرب الباردة بين القوتين الكبريين في العالم كان لها صدى قوي وفاعل. الحرب الأميركية في فيتنام المنقسمة، وكوريا التي صارت كوريتين، والفقر والأمية اللذان سادا المنطقة أنتجا مجتمعات ارتبكت فيها الهويات، وتمزقت النخب وتصارعت. الشاب الكمبودي سالوت، قبل أن يغيّر اسمه إلى بول بوت، كان نتاج تلك الصيرورة العنيفة التي لم تغب فيها الدماء. ساد فيها الإحباط والفشل.

أرسله والده للدراسة في فرنسا، التي كانت تستعمر بلاده. لم يكن هو ميالاً للدراسة، وكان مشدوداً إلى الرياضة والموسيقى. فشل في الليسيه الفرنسية، وانتقل إلى المدارس المهنية لتعلم النجارة. تنقل بين الورش، ولكن الفشل كان رفيقه الدائم. أصيب بالإحباط ودخل في كآبة ساقته إلى العزلة. رفاقه الكمبوديون الذين كانوا من طبقات اجتماعية دون طبقته، وبعضهم جاء من وسط فقير، نجحوا في دراستهم بفرنسا وعادوا إلى بلادهم، وبدأوا مسيرة حياة مريحة. كل ذلك جعل منه شخصية لا تملك شيئاً سوى كراهية الآخرين يؤجّجها الإحباط والكآبة والفشل. قاده صديق له إلى حلقة من دوائر الحزب الشيوعي الفرنسي؛ علَّه يجد فيه من فعاليات الفكر والنقاش ما يخرجه من الكوابيس النفسية التي سيطرت عليه. لكن الفشل لم يفارق الشاب الكمبودي سالوت، الذي سيصبح الزعيم بول بوت. لم يفهم شيئاً من أبجديات الفكر الماركسي، كل ما وقر في رأسه، عبارة صراع الطبقات، التي ظَّل يرددها.

بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وانتصار الحلفاء على المحور حولت فرنسا استعمارها المباشر لكمبوديا إلى نظام الحماية، وصدر دستور جديد سمح بتأسيس الأحزاب السياسية. انضم بول بوت إلى الحزب الديمقراطي اليساري المعارض. اصطدم الحزب مبكراً بالملك نوردوم سيهانوك؛ لأن الحزب طالب بضرورة تغيير الملك. انتشر الحزب بسرعة في مناطق البلاد، فقرر الملك وقف العمل بالدستور، وعمل على القضاء على الحزب الديمقراطي. انتشرت الحركة الشيوعية في كمبوديا، وبرز من وسطها حزب يحمل اسم «الخمير الحمر». لم يكن بول بوت له قدرات فكرية أو تنظيمية. هرب إلى الصين ودأب على الاستماع إلى خطابات ماو تسي تونغ وستالين.

انقسمت كمبوديا بين شمال وجنوب ونشبت الحرب الأهلية، وقام الجنرال لون لول بانقلاب ضد الشيوعية. حقق «الخمير الحمر» انتصاراً صاعقاً. تولى بول بوت رئاسة الحكومة. هاجم كل القطاعات الاقتصادية، وحول البنوك معتقلات، وألغى العملة، وأجبر جميع السكان بالتحول للزراعة في الريف. كل الأساتذة والأطباء والمهندسين ورجال المال حولهم عمالاً زراعيين. حوَّل الرهبان البوذيين عمالاً يدويين. حوَّل المدارس والبيوت معتقلات جماعية، حيث التعذيب والقتل. أعدم مئات الآلاف بتهمة التآمر. مات الآلاف بسبب الجوع والمرض وإرهاق العمل الطويل. قضى بول بوت على 35 في المائة من شعبه. صُنعت له تماثيل ليحل محل بوذا، ووضعت في جميع البيوت. تدخلت فيتنام عسكرياً وقضت على قوات «الخمير الحمر». وُجدت مئات القبور الجماعية، وجبال من الجماجم. ذلك الطاغية القاتل الجاهل الفاشل المجنون لا يغيب عن دنيانا، ويعود في كل مرة باسم جديد ليبيد.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

بول بوت جنون الإبادة الذي لا يغيب بول بوت جنون الإبادة الذي لا يغيب



GMT 06:32 2025 الخميس ,25 كانون الأول / ديسمبر

التعليم وإرادة الإصلاح (1)

GMT 06:29 2025 الخميس ,25 كانون الأول / ديسمبر

عرش ترامب!

GMT 06:27 2025 الخميس ,25 كانون الأول / ديسمبر

تكليفات الرئيس!

GMT 06:26 2025 الخميس ,25 كانون الأول / ديسمبر

سمعة البرلمان!

GMT 06:23 2025 الخميس ,25 كانون الأول / ديسمبر

الداعية «قفة» وأبناؤه

GMT 06:15 2025 الخميس ,25 كانون الأول / ديسمبر

ماذا تبقى من ذكرى الاستقلال في ليبيا؟

GMT 06:09 2025 الخميس ,25 كانون الأول / ديسمبر

مُقرئ الفلوس

GMT 06:01 2025 الخميس ,25 كانون الأول / ديسمبر

كعب لا تقبله أمريكا

أجمل فساتين السهرة التي تألقت بها سيرين عبد النور في 2025

بيروت - المغرب اليوم

GMT 01:40 2025 الجمعة ,26 كانون الأول / ديسمبر

ترامب يعلن شن ضربة عسكرية ضد داعش في نيجيريا
المغرب اليوم - ترامب يعلن شن ضربة عسكرية ضد داعش في نيجيريا

GMT 19:11 2021 الإثنين ,01 شباط / فبراير

تتخلص هذا اليوم من الأخطار المحدقة بك

GMT 13:03 2020 السبت ,26 أيلول / سبتمبر

حظك اليوم برج الجدي السبت 26-9-2020

GMT 08:13 2020 الثلاثاء ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج العقرب الجمعة 30 تشرين الثاني / أكتوبر 2020

GMT 17:35 2018 الثلاثاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

المغرب الفاسي ينتصر وديًا على وداد صفرو

GMT 08:22 2012 الجمعة ,22 حزيران / يونيو

النفط يتدفق مجددًا بخط مأرب في اليمن

GMT 14:32 2020 الجمعة ,09 تشرين الأول / أكتوبر

البولندية سواتيك تبلغ نهائي بطولة فرنسا المفتوحة للتنس

GMT 12:34 2019 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

رئيس الوداد يحاصر مدرب الفريق بالأسئلة بعد صدمة الديربي

GMT 06:31 2019 الأحد ,20 تشرين الأول / أكتوبر

هذه توقعات "الأرصاد الجوية" لطقس المملكة المغربية الأحد

GMT 09:09 2019 الثلاثاء ,29 كانون الثاني / يناير

سيدة تعثر على عظام بشرية داخل جوارب متجر شهير في بريطانيا

GMT 08:30 2019 الجمعة ,25 كانون الثاني / يناير

7 لاعبين يغيبون عن أولمبيك خريبكة أمام مولودية وجدة

GMT 11:35 2018 الخميس ,27 أيلول / سبتمبر

الجزائر تطلق بوابة إلكترونية للترويج للسياحة

GMT 23:21 2018 الثلاثاء ,05 حزيران / يونيو

"جورجيا" وجهة سياحية مثالية للاستمتاع بالثلوج
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
RUE MOHAMED SMIHA ETG 6 APPT 602 ANG DE TOURS CASABLANCA MOROCCO
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib