من يسار اليسار إلى يمين المخزن

من يسار اليسار إلى يمين المخزن

المغرب اليوم -

من يسار اليسار إلى يمين المخزن

توفيق بو عشرين

حملت لائحة السفراء الجدد عددا من أسماء اليسار الراديكالي (سابقا) إلى سفارات المملكة المغربية في لندن وكوبنهاغن وبريتوريا والفاتيكان، وغيرها من السفارات…

عندما تصل النخب السياسية الوافدة على القصر إلى قلعة وزارة الخارجية لتحمل صفة ممثل أو ممثلة جلالة الملك في الخارج، هذا معناه أن المعني بالأمر نجح في كل الامتحانات التي اجتازها، وأن القصر يعطيه بطاقة العضوية في النظام، ويسبل عليه صفة واحد من أهل الدار، حتى وإن لم يولد فيها.

اليسار الراديكالي، القادم من «إلى الأمام» و«23 مارس»، و«لنخدم الشعب»، ومن النهج الديمقراطي، ومن صفوف قاعديي الجامعة، ومن بيت الجمعية المغربية لحقوق الإنسان… هذا اليسار الذي كان يقف على يسار اليسار، وأصبح يقف على يمين «المخزن»، يسائل تجربتنا الديمقراطية الفتية، ويسائل مساهمة هؤلاء الثوار المتقاعدين في الدفاع عن القيم التي كانوا يؤمنون بها أيام السجن والمحاكمات والنضال والخلايا السرية والعلنية.

المراجعات الفكرية والسياسية ليست جديدة على اليسار في العالم، خاصة في أوروبا وأمريكا اللاتينية. شيوعيو أوروبا، مثلا، أجروا مراجعات قاسية على إيديولوجيتهم للابتعاد عن نظرية «ديكتاتورية البروليتاريا»، ومعاداة الأحزاب الليبرالية، والتماهي مع النموذج السفياتي والصيني، ومن صلب هذه المراجعات خرج اليسار الاشتراكي والاجتماعي الأوروبي الذي قبل بالديمقراطية الليبرالية وتعايش مع قيمها، بل صار مدرسة أهم من مدرسة لينين وستالين وتروتسكي وماو تسي تونغ… ومن صلب هذه المراجعات خرج الموقف المعتدل لليسار اللاتيني من الدين ومن الكنيسة تحت عنوان لاهوت التحرير.. هذه الأطروحة التي ابتعدت عن الكليشي الماركسي القديم الذي كان يرى في الدين أفيون الشعوب، حتى إن لينين جعل من الإلحاد دين الدولة الرسمي لما نجح في ثورة 1917.

فهل مراجعات يسارنا الجذري في المغرب كانت من هذا النوع الذي يغير في الوسائل ويحافظ على الغايات، وينوع في الطرق دون أن يضيع الوجهة؟ لا يوجد جواب واحد عن هذا السؤال، لكن ما هو أمامنا من مؤشرات لا يبعث على الاطمئنان.. لنأخذ مثال اليسار الذي دخل إلى خيمة حزب الأصالة والمعاصرة رافعا لواء محاربة الإسلاميين، والمصالحة مع الدولة تحت عنوان مضلل يقول: «إن دمقرطة الدولة لا تتحقق دون دمقرطة المجتمع، وإن هذه المهمة الأخيرة تفترض شن حرب لا هوادة فيها على جذور الفكر الديني التي جعلت من الإسلاميين يحتلون قاعدة الجماهير الشعبية، ويحرمون الثورة اليسارية من أسباب القيام والتوهج».

تجربة اليسار الجديد مشارب واتجاهات عدة، لا يشكل الذين اختاروا منهم «التطبيع مع المخزن» إلا القلة، لكنهم أصبحوا رموزا إعلامية وسياسية وحقوقية، ومن هنا تنبع شرعية مساءلة مشروعهم ونمط سلوكهم وموقعهم في قلب المشهد السياسي والحقوقي.

لا يريد رفاق إلياس العمري وأصدقاؤه أن يذكرهم أحد بقائمة مفارقاتهم وتناقضاتهم العديدة منها، مثلا، أنهم يدافعون عن الدولة المدنية في بلاد إمارة المؤمنين، وأنهم لا يطيقون أصولية المجتمع، لكنهم يستفيدون من أصولية النظام، وأنهم يناضلون في حزب وسط اليسار المتخم بالأعيان والأرستقراطيين، وأنهم جاؤوا لمحاربة الإسلاميين لكن بماكينة انتخابية لا روح فيها، ودعم من الإدارة لا يخفى على أحد، وأنهم يدافعون عن حقوق الإنسان المهددة من قبل «المرجعية الإخوانية»، لكنهم يتعايشون مع خرق حقوق الإنسان على يد الدولة العميقة كل اليوم… هم، إذن، لا يعتبرون أن المشكل في المغرب هو السلطوية التي ترجع بالمجتمع إلى الخلف، وتدفع الغاضبين فيه إلى الاحتماء بالدين والمسجد. هم ضد الإسلاميين الذين يختارهم الشعب اليوم بمحض الحرية أو الغضب أو الاحتقان أو التجريب. العداء للإسلاميين لا يصنع بديلا كما أن التحالف معهم لا ينتج مشروعا، خذ، مثلا، خديجة الرويسي التي تدافع عن الحريات الفردية في الأصالة والمعاصرة، وتجلس على المقعد نفسه مع عابد الشكايل المتزوج بامرأتين، وخذ مثلا بنشماس الذي كان ينتقد إدريس البصري، وهو نفسه زميل ميلودة حازب التي كانت قيادية في حزب إدريس البصري، المسمى قيد حياته الحزب الوطني الديمقراطي الذي كان رئيسه، أرسلان الجديدي، نكتة الأحزاب الإدارية.

من حق اليسار الثوري سابقا أن يعيد النظر في قائمة تحالفاته وخريطة أصدقائه وأعدائه، لكن ليس من حقه، باسم اليسار وقيمه ونضاله ورمزيته، أو باسم التطلعات الشخصية والتعب النفسي، أن يتحول إلى قطعة في آلة السلطوية الناعمة، وأن يغدو ورقة في يد الدولة العميقة تحارب بها التعددية السياسية والانتخابات النزيهة والديمقراطية الفتية، أو أن يصير سببا للفتنة، وجعل الصراع بين علمانيين ومتدينين، في الوقت الذي تحتاج فيه البلاد إلى فرز أهم في هذه المرحلة بين ديمقراطيين وسلطويين. هناك حاجة إلى حزب يساري كبير، وإلى حزب ليبرالي أكبر للتدافع مع المشروع المحافظ للإسلاميين، ومع المشروع الأكثر محافظة للدولة، لكن كل هذا في احترام تام لقواعد المنافسة والشفافية والاستقلالية، حتى لا يختل قانون العرض والطلب في الساحة السياسية.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

من يسار اليسار إلى يمين المخزن من يسار اليسار إلى يمين المخزن



GMT 15:12 2024 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

غزو برّيّ إسرائيليّ أم طوفان أقصى لبنانيّ؟

GMT 15:09 2024 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

العدوُّ الأول

GMT 15:07 2024 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

أميركا والهرب من السؤال الإيراني الصعب…

GMT 15:05 2024 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

أدبُ الحجّ وحولَ الحجّ

GMT 15:02 2024 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

«أولاد رزق... القاضية»... عندما تتحدث الأرقام

GMT 15:01 2024 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

حديث استقرار على ضفاف النيل

GMT 14:59 2024 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

السعودية... خدمة الحجاج مجد خالد تالد

GMT 14:57 2024 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

عندما تضعها إلى جوار بعضها

بلقيس تتألق في صيحة الجمبسوت وتخطف الأنظار

أبوظبي - المغرب اليوم

GMT 12:37 2024 الإثنين ,17 حزيران / يونيو

نصائح لتنسيق إكسسوارات عيد الأضحى بكل أناقة
المغرب اليوم - نصائح لتنسيق إكسسوارات عيد الأضحى بكل أناقة
 
almaghribtoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday almaghribtoday almaghribtoday
almaghribtoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
almaghrib, Almaghrib, Almaghrib