طلال سلمان
تتهاوى الكيانات السياسية لبعض الأقطار العربية بسرعة قياسية وكأنها من كرتون، ولكن ليس من أجل تصحيح المغلوط في رسم خرائطها بعيداً عن إرادة شعوبها، وخلافا لمصالحها في الغالب ومن خارج السياق التاريخي لوجودها بهوية أهلها الثابتة، والمؤكدة، بل بسبب عجز أنظمة الحكم فيها عن حمايتها وتأمين شروط السلامة والديمومة لها.
بالكـــــاد يتبقى من تلك الدول وفيها مؤسسة الجيش. هذا ما لم تعصف بوحدته مخاطرُ زجه في الصراع الداخلي الذي غالباً ما يجد من يضفي عليه الطابع الطائفي أو المذهبي، فينقسم بدوره على نفسه، أو تضعفه تداعيات المغامرات العسكرية في أراضي الدول الأخرى.
ها هو المشرق العربي بكياناته السياسية جميعا، يعيش حالة قلق مصيري، وتتساقط الحدود التي رسمها الأجنبي لدوله (معاهدة «سايكس ـ بيكو») التي استُولدت قصيريا، وعاشت دائماً حالة من الهشاشة التي مهدت لإقامة الكيان الإسرائيلي على أرض فلسطين من دون حرب تقريباً، بسبب الفارق الهائل في القدرات بين القوى المسلحة الإسرائيلية (في عصابات «الهاغاناه» و»الشتيرن» التي ستغدو، في ما بعد «جيش الدفاع الإسرائيلي») وبين كتائب من القوات المسلحة لدول مصر وسوريا والأردن والعراق ولبنان، والتي ظلت بمجموعها أقل في العديد وفي كمية السلاح فضلاً عن نوعيته من الجيش الإسرائيلي.
اليوم يطالعنا، في المشرق العربي، المشهد التالي:
1ـ تعيش دولة سوريا في قلب حرب حقيقية لا صلة لها بأصل مشاهد الاعتراض الشعبي على سلوك النظام. إنها الآن، في صورتها الفعلية، «حرب دولية»، وهي قد اسقطت حدود سوريا الغربية والشمالية إلى حد كبير، أما الحدود الجنوبية فتتحكم بالحركة فيها إسرائيل، حتى لو شكل الأردن مخازن السلاح ومراكز التدريب، مع الحرص على إبقاء خطوط الاتصال قائمة مع النظام في دمشق.
2ـ أما دولة العراق المهمشة والمختلة علاقات «المكونات الشعبية» فيها، ان على المستوى العنصري (عرب وأكراد) أو على المستوى المذهبي (شيعة وسنة أساساً)، فتعيش في قلب حرب تكاد تكون في طبعتها الأخيرة «دولية»، حتى من قبل «غزوة داعش». أما بعد اجتياحات «الخليفة أبو بكر البغدادي» بجحافله التي أسقطت الحدود السياسية لكيانات عدة، بغير عناء، فقد غدت هذه الحرب «دولية» بالفعل.
لم تعد مشاركة الحرس الثوري الإيراني في العراق سرية، (ومن قبل في سوريا)، أما مشاركة الطيران الحربي في الإغارة على «أشباح» «داعش» على امتداد المساحة الواصلة ـ الفاصلة بين سوريا والعراق، فقد جمعت إلى الأميركيين والبريطانيين والفرنسيين دولاً أوروبية أخرى، وصولاً إلى استراليا، فضلاً عن بعض الطيارين والطيارات العربيات اللواتي ظهرن للمرة الأولى خارج مساحات العروض العسكرية.
ولنتجاوز أن بعض الدول العربية المشاركة في هذه الحرب لا تهتم بأن تخترق طائراتها الحربية فضاءات دول عربية أخرى، بغير إذنها، بينما كان يمكن ان تنشب حرب فعلية إذا ما اخترق جنود من دولة شقيقة، مثلاً، حدودها التي يمتد فوقها، وعلى طولها، سور مكهرب يمكن ان يقتل أي «متسلل» عربي، بينما هي تفتح أجواءها ومياهها لطيران الغرب ومدمراته الآتية للقصف في بعض جهات العراق وصولاً إلى سوريا: «في مواجهة داعش لا مجال للأناشيد والعواطف القومية! المهم سلامة النظام التي لا تضمنها إلا مصالح الحليف الدولي. ولا بأس من اعتبار النظام بعض تلك المصالح»!
3ـ وحده الأردن، المحصن دولياً، بعد إسرائيل ومعها، أمكنه إطلاق طيرانه الحربي ليضرب في العراق منفرداً، ليس فقط من باب مشاركة التحالف الدولي في حربه الجوية، بل أساساً «للثأر» لطياره الذي اسقطت «داعش» طائرته الحربية في بعض انحاء أرض الرافدين ثم عمدت إلى إحراقه حيَّاً في استعراض سينمائي دموي، بقصد بث الرعب في قلوب من يذهب إلى الحرب عليها.
4 ـ أما لبنان الذي يكاد يكون بلا دولة، فثمة ما يمكن اعتباره اتفاقاً دولياً على تحييده، وربما تحول هذا الاتفاق في نظر «داعش» إلى مصدر للابتزاز. وتؤكد عملية اختطاف العسكريين، من الجيش والقوى الأمنية، أحد عناوين هذا الابتزاز الذي يهدف إلى ما يتجاوز التهويل على الداخل اللبناني إلى استدراج عروض دولية تتجاوز الوطن الصغير إلى جواره العربي، الأقرب فالأبعد.
على ان المقصد الأخير لتنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» هو العتبات المقدسة في مكة والمدينة، التي يمكن ان تعطي «الخلافة» شرعيتها. ولأن أنظمة الجزيرة والخليج، وفي الطليعة منها المملكة العربية السعودية تدرك دلالة استخدام تعبير «الخلافة» في إستراتيجية «داعش»، فهي تحاول صده ووقف اجتياحاته البلدان في طريقه إليها. ولعل في ذلك ما يفسر التحول الذي طرأ على موقفها تجاه التطورات التي شهدتها بغداد وانتهت إلى تبديل فعلي في صيغة الحكم عموماً، والحكومة خصوصاً، والتي دفع بعض أثمانها رئيس الحكومة العراقية السابق نوري المالكي. أما على الصعيد الميداني، فقد أعادت القيادة السعودية التثبت من ان السور المكهرب الذي أقامته على امتداد حدودها مع العراق، يعمل بطاقته القصوى، وبالــــــتالي فقد يمنع، أو يؤخر وصول قوات «داعـــــش» إلى مقصدها، أي إلى العتبات المقدسة في المملكة المذهبة.
مؤكد ان خرائط دول المشرق العربي موضوعة الآن على طاولة من يعتبرون أصحاب القرار على المستوى الدولي. ومؤكد ان ثمة من يعيد النظر في هذه الكيانات التي استُولدت قيصرياً في لحظة التسلم والتسليم بين «الاستعمار القديم» ممثلاً بدولة تركيا وريثة السلطنة العثمانية، والاستعمار الجديد، ـ آنذاك ـ أي بريطانيا وفرنسا، مع نهاية الحرب العالمية. فسُلخ عن سوريا بعض جنوبها لإقامة الإمارة الهاشمية في الأردن، تمهيداً لاقامة «دولة يهود العالم» باسم إسرائيل على حساب فلسطين وأهلها الذين كانوا فيها على امتداد التاريخ. كذلك أضيفت إلى «متصرفية جبل لبنان» التي كانت دول الغرب قد فرضتها على السلطان العثماني في العام 1860، وبعد مذابح مدبرة، أجزاء من ولايات عثمانية سابقة، هي ما يسمى لبنانياً «الأقضية الأربعة» لتصير للجمهورية اللبنانية حدودها الحالية بتوازناتها الطوائفية المغايرة لما كانت عليه في المتصرفية.
بالمقابل، فإن السوريين لا يمكن ان ينسوا ان «دولتهم» التي ابتدعتها معاهدة «سايكس ـ بيكو» بين البريطانيين والفرنسيين، في خضم الحرب العالمية الأولى، قد سُلخ عنها بعض جنوبها لإقامة الإمارة الهاشمية، ثم بعض شمالها، عشية الحرب العالمية الثانية إذ أعطيت منطقة كيليكيا واسكندرون لتركيا، فضلاً عما اقتطع منها لحساب الكيان اللبناني المستحدث بحدوده الراهنة، فضلاً عن ان صراعاً بريطانياً ـ فرنسياً قد نشب حول الموصل انتهى بانتصار بريطانيا فظلت الموصل في العراق ولم تذهب إلى سوريا.
هذا إذا ما تناسينا ان السوريين كانوا، ولعلهم ما زالوا ينظرون إلى فلسطين على انها بعض الأرض السورية التي اقتطعت منهم غصباً ليقام عليها، في وقت لاحق، الكيان الإسرائيلي.
أما العراق، فإن خريطته المستقبلية تكاد تتبدى عبر دخان المعارك مع جحافل «داعش». فلقد تم تظهير إقليم كردستان العراق، عبر المواجهات الدموية، وكأنه مشروع دولة قائمة بذاتها، وإن حرصت ـ ولأسباب اقتصادية قبل السياسة وبعدها ـ على روابط معينة مع الدولة المركزية في بغداد.. كذلك فإن الأجواء المشحونة بالعصبية المذهبية، والتي كثيراً ما تسببت في نزف دموي وفي إذكاء لنار الطائفية تمهد لـ «فرز سكاني» على قاعدة: ليكن لكل من الطائفتين الشيعية والسنية كيانها السياسي ضمن فيدرالية طوائفية تضم أشلاء ما كان سابقاً «الشعب العــراقي» في دولته ذات الدور المؤثر أقله في المحيط العربي.
بصيغة أخرى، فإن مستقبل الدولتين العربيتين المركزيتين في المشرق العربي، سوريا والعراق، هو المطروح على بساط البحث الدولي، مع شيء من «التواطؤ» العربي.
وها هو اليمن يفرض بالتطورات الأخيرة فيه، مصير دولته على بساط البحث: هل تبقى «مركزية» بعاصمة واحدة ورئيس واحد وجيش واحد، أم يعود اليمن يمنين، شمالي يحكــمه «الزيود»، وجنوبي يحكمه «الشوافع»، أم يتم تفتيت هذا البلد العريق بحرب أهلية لا تنتهي، تأميناً لجواره السعودي ومن خلفه إمارات الخليج العربي؟
أما الذريعة فمتوفرة الآن بوضوح: صد الهجمة الإيرانية على الأرض العربية.
لكن الزلازل لا تتأثر كثيراً بالمواقف السياسية، بل انها كثيراً ما تستولد وقائع جديدة تفرض تعديلاً في الثوابت. والعـــاقل من قرأ التاريخ جيداً وعمل بمضمونه.